ثم بعد ذلك ضرب الله جل وعلا لهم أمثلة في أربع أمم سابقة: قوم نوح، وقوم عاد، وقوم صالح، وقوم لوط.
فهؤلاء أمم سبقت، وذكر الله بعد ذلك قوم فرعون، فأصبحوا خمس أمم.
ثم قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9].
قوله تعالى: (عَبْدَنَا) مركب من كلمتين: (عبد) و (نا) الدالة على الفاعلين، ويراد بها التعظيم، والمقصود بها هنا الله، فالإضافة هنا إضافة تشريف، وكلمة (عَبْدَنَا) أرفع مقام إضافة في القرآن؛ وذلك لأن العبودية أعظم مطلوب من العبد، وإذا أضيفت هذه العبودية إلى الله؛ فقد وصل الإنسان إلى الشرف العظيم، وقد نعت بها بصورة الإفراد نوح، وذكر الله بها أيوب فقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} [ص:41]، وذكر بها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45]، والذي يعنينا أنها من أرفع المقامات.
قال تعالى: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] إنك إذا كنت تقرأ القرآن بالعربية الصحيحة فإنك تقف على كلمة (مجنون) ثم تقول: (وازدجر)؛ لأن كفار قوم نوح ما قالوا: مجنون وازدجر، بل قالوا: مجنون، ولم يقولوا كلمة (ازدجر).
فالواو في (وَازْدُجِرَ) عاطفة على (قالوا) لا على (مجنون)، أي: قالوا مجنون بألسنتهم، وازدجروه بفعلهم، والذي يتأمل قراءة الشيخ سعود الشريم وفقه الله يجده يقرأ هكذا: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ} [القمر:9] ويقف، ثم يقول: {وَازْدُجِرَ} [القمر:9]، وهذا من العلم بكلام الله تبارك وتعالى، وأنا لا أقول إن الوصل لا يجوز، ولكنني أتكلم عن مراسي العلم العالية، ولا أتكلم عما هو جائز وغير جائز؛ لأنهم ازدجروه بفعلهم، وقالوا: مجنون بألسنتهم؛ حتى لا يفهم أن (ازدجر) معطوفة على (مجنون).