ذكر ما قيل في تعيين الذبيح

يقول الله تعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28].

إن هناك أموراً لا ينبغي لطالب العلم أن يجهلها، فأهل كل الملل من اليهود والنصارى والمسلمين متفقون على أن إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه، وأن الله جل وعلا فدى ذلك الذبيح، ولكن السؤال من هو الابن الذي أمر إبراهيم بذبحه ثم فداه الله جل وعلا بكبش عظيم.

فقول على إنه إسماعيل، وقول على إنه إسحاق.

وجمهور العلماء على أنه إسحاق، واختاره ابن جرير الطبري شيخ المفسرين رحمه الله، وهو المروي الثابت عن عبد الله بن مسعود، والرواية الصحيحة عن عبد الله بن عباس، وهو قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وعن جملة من الصحابة، وروي عن أكثر من عشرة من سادات التابعين.

وذهب بعض العلماء -وهي الرواية الثانية عن ابن عباس، وقول الإمام أحمد -إلى أن الذبيح هو إسماعيل، وكل منهم له أدلة.

وقال الزجاج رحمه الله: الله أعلم أيهما هو الذبيح، لكثرة الاختلاف في المسألة.

وأما أنا فلا أدري أيهما الذبيح، فكلما ترجح قول صُدم بشيء، وقد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا ابن الذبيحين)

و صلى الله عليه وسلم أن الحديث رواه الحاكم في المستدرك، وقال عنه الذهبي: إن سنده واهٍ جداً، فلا يقبل في مسألة كهذه.

أما اختلاف أقوال العلماء فسنحاول الإجمال فيه لتتبين.

فالله تعالى: ذكر أن قوم إبراهيم أرادوا أن يحرقوه، ثم ذكر عنه أنه قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، ثم دعا ربه: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]، قال الله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:101 - 102]، والذي بلغ معه السعي هو، الغلام الذي بشر به، وذلك عند خروجه من أرض العراق، فدعا ربه أن يهب له من الصالحين، ثم قال الله عنه: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102].

فالذين قالوا: إنه إسحاق قالوا: ليس في القرآن دليل واحد على أن الله بشر إبراهيم بإسماعيل، بل المبشر به في القرآن هو إسحاق، كقوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} [الصافات:112]، فكل القرآن يدل على أن الذي بشر به بشارة هو إسحاق، فقالوا: إن الذبيح هو المبشر به؛ لأن الله قال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ} [الصافات:101 - 102].

فهذا هو الذي دفع العلماء إلى القول بأنه هو إسحاق.

ومن أدلتهم أنهم قالوا: إن الله يقول: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات:102] أي أنه كان يعيش في كنف من؟ في كنف أبيه، وإسماعيل لم يعش في كنف أبيه، بل كان مع أمه في مكة، فإسحاق هو الذي كان مع أبيه يخدمه، وأما إسماعيل فكان مع أمه، وإبراهيم قد جاء إلى مكة ثلاث مرات، فمرتان لم يجد فيهما إسماعيل، وفي المرأة الثالثة وجده.

وممن قالوا: إنه إسماعيل وانتصروا لهذا الرأي العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى صاحب (أضواء البيان)، فقد قال: إنه لا يسوغ القول بأنه إسحاق، وإن ظاهر القرآن يدل على أنه إسماعيل، واحتج بآيتين: الآية الأولى: قوله تعالى في الصافات: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ} [الصافات:101 - 102] وذكر الله قصة الذبح كلها، ثم قال الله بعد أن ذكر الذبح: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:106 - 112].

يقول الشنقيطي رحمه الله: إن قواعد القرآن تقتضي أنه لا يمكن أن يعيد الله البشارة مرة ثانية، فالمبشر به الأول غير المبشر به بالثاني؛ لأن الله قال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101] ولم يسمّ، ثم قال بعد الحدث، قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} [الصافات:112]، فـ (الواو) واو عطف، والعطف يقتضي المغايرة.

ويجاب عنه بأنه لا يلزم أن تكون الواو واو العطف، فيمكن أن تكون الواو واو استئناف، فتكون الآية قد نزلت منفكة عن الأولى وقال رحمه الله تعالى: والدليل الثاني على أن الذبيح هو إسماعيل: أن الله قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] ووجه الدلالة هو أنه لا يعقل أن يبتلي الله إبراهيم بذبح إسحاق وقد أخبره بأن من ذرية إسحاق يكون يعقوب، فليس هناك معنى للابتلاء؛ لأن إبراهيم يعرف أنه لن يموت؛ لأن الله قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]، فلن يأتي يعقوب إلا بحياة إسحاق.

ويجاب عن هذا بأن العرب تكرر حرف الجر في نحو قولك: مررت بصالح ثم مررت بعده بخالد، ولا يستقيم أن تقول إذا أردت العطف: مررت بصالح ثم مررت بعده خالد.

فالله هنا قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] فلو كان المقصود العطف -أي أنها بشارة واحدة -لكان لفظ الآية: (ومن وراء إسحاق بيعقوب)، فلما حذفت الباء دل حذفها على أن الآية منفكة، بمعنى أن البشارة كانت بإسحاق فقط، وأما جملة (ومن وراء إسحاق يعقوب)، فغير داخلة في البشارة.

ومن المعلوم أنه لا يتعلق بمعرفة أحد الذبيحين عمل في حياتك اليومية، والذي أردته من إثارة القضية أن تعرف أولاً أنها مسألة خلاف، وأن كثيراً من العلماء قالوا بأنه إسحاق، وكثيراً منهم قالوا بأنه إسماعيل، والمهم أن تعرف أن لكل قوم دليلاً، وأشهر من قال من المفسرين أنه إسحاق ابن جرير أمام المفسرين، وأشهر من قال من المفسرين أنه إسماعيل الحافظ ابن كثير رحمه الله، والعلامة الشنقيطي رحمه الله ورحم الله جميع علماء المسلمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015