تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين)

الوقفة الثالثة مع قول الرب تبارك وتعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:24 - 25].

هنا يخبر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم بنبأ ضيف إبراهيم المكرمين، وهم ملائكة كرام، قيل: إنهم جبريل وإسرافيل وميكال نزلوا من السماء، وأصل مهمتهم أن يعذبوا قوم لوط، ولوط عليه الصلاة والسلام ابن أخ لإبراهيم، كانا يسكنان بأرض بابل في العراق، فلما تآمر القوم على إبراهيم وأدخلوه النار هاجر لوط بزوجته وابنتيه، وكذلك إبراهيم، فتركوا أرض العراق، فنزل لوط عليه الصلاة والسلام في أرض سدوم جهة الأردن حالياً في الضفة الشرقية من الأردن، ونزل إبراهيم عليه الصلاة والسلام في بيت المقدس في أرض فلسطين، فكانا بعيدين.

فلما جاءت الملائكة مرسلة لتعذب قوم لوط لأنهم أنكروا نبوة نبيهم وجاءوا بالفاحشة العظيمة مرت وهي في طريقها على إبراهيم، وكان إبراهيم آنذاك متزوجاً من سارة الحرة، ولم تكن تحته هاجر الأمة، وكان إبراهيم يفتح بيته للضيفان، فلذلك لم تستأذن الملائكة، فدخلت البيت على إبراهيم عليه الصلاة والسلام في صور رجال غير معروفين، فاستقبلهم وهو منكر لهم؛ لأنه لا يعرفهم، ولما حيوه كأنهم سلموا بطريقة غير معهودة قال تعالى: {فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:25]، فدخلوا عليه، فبادر عليه الصلاة والسلام فعمد إلى عجل سمين فقربه إليهم وقدمه لهم على أنه طعام لضيفه، وكان عامة النعم التي يملكها البقر، ولكن الملائكة لا تأكل ولا تشرب ولا توصف بذكورة ولا بأنوثة فلم تقرب أيديهم الطعام، فازداد خوفه، قال تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [الذاريات:28]، فلما شعر بالخوف طمأنته الملائكة وأخبروه بأنهم رسل من الله، فلما زال عنه الخوف بشروه، قال الله تعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28]، وقال في آية أخرى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101]، وكان الذي يتولى خدمة الضيوف إبراهيم بنفسه ومعه زوجته سارة.

فلما قالوا ذلك بدر من الزوجة ردة فعل، حيث تعجبت فأظهرت صوتاً، قال الله جل وعلا: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات:29] و (أقبلت) هنا ليس بمعنى (مشت)، وإنما أخذت في الفعل، فهو نظير قول الله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه:121] أي: أخذا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وقوله تعالى: (في صرة) يعني: -ظهرت صوتاً- يقال: صرير الباب، أي: صوته، فصكت وجهها تعجباً {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات:29]، فذكرت سببين من أسباب منع الحمل، فقالت: (عجوز عقيم)، فأخبرتها الملائكة بأن هذا أمر الله: {قَالُوا كَذَلِك قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات:30]، فاطمأن إبراهيم وقبل البشارة، فلما ذهب عنه الروع والخوف سألهم: لماذا قدمتم؟ فأخبروه بأنهم قدموا ليعذبوا قوم لوط، فأدركته العاطفة والشفقة على ابن أخيه لوط، فقال: ((إِنَّ فِيهَا لُوطًا)) قالت الملائكة: {قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت:32]، وأخبرته الملائكة بأنهم معهم حجارة مسومة -أي: معلمة- عقاباً لأولئك المجرمين، هذا ما تدل عليه الآية جملة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015