ثم لما ذكر الرب تبارك وتعالى صفاتهم، ونعوتهم -والسرائر أمرها إلى الله- ذكر الله جل وعلا ما أعد لهم، فقال عنهم: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا))، ولا يعني ذلك أن من لم يبك من خشية الله ليس بمؤمن؛ لأن الله يتكلم هنا عن أهل المنازل العالية، ولا يتكلم عن الإيمان الذي يفرق به بين الإيمان والكفر، فربما اجتمع في رجل بعض هذه الخمس فيه كلها، فلا يقال عنه: إنه ليس بمؤمن، فكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ورضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا فالأصل فيه أنه مؤمن، وأهل الإيمان يتفاوتون، والأعمال قرينة الإيمان، فلا انفكاك بين الإيمان والعمل الصالح.
ثم قال الله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنفال:4] أي: لهم درجات عالية في الجنة، والجنة لها ثمانية أبواب في صورة أفقية، ويأتي عليها يوم وهي كظيظ من الزحام، وفي داخل الجنة درجات متفاوتة، ولقد سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه عن أهل الدرجات العلى، فقال الله جل وعلا -كما في الحديث القدسي-: (أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، فلم تسمع أذن، ولم تر عين، ولم يخطر على قلب بشر)، وقال الله في سورة السجدة: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
ولو أن ملكاً من ملوك الدنيا أجرى مسابقة، وقال: من يفوز بها سأعطيه جائزة لا يتوقعها؛ لتسابق الناس إليه لعلمهم أن هذا الملك لا يمكن أن يعطي جائزة وضيعة يُعَيَّر بها، وأن هذا الفائز سينال أعظم شيء ما دام الملك قد أخفاه؛ لأن الملك سيعطي على قدر ملكه.
فكيف إذا كان المانح والمعطي ومخفي الجائزة رب العالمين جل جلاله وهو الذي بيده خزائن السماوات والأرض، وله جل وعلا السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟! قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].