ويلحظ في كلمة: ((يَسْأَلُونَكَ)) أن الله يأتي بالجواب بعدها، كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة:189]، حيث قال تعالى بعدها: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:215]، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105] , وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85].
ولكن هنا قال الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1]، ولم يأت جواب، وإنما جاء الجواب بعد أربعين آية، حيث قال الله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال:41].
وهذا من تربية الله للصحابة؛ لأن الخطأ من الرجل العظيم ليس كالخطأ ممن هو أقل منه.
كما ترى شاباً يلعب بالكرة والمؤذن يؤذن، فهذا الفعل لا يجوز، ولكن لأنه شاب تأتيه بيسر؛ لأنك تعرف عين القدر وعين الشرع، فتأتيه باللين.
ولكن لا يقبل منك اللين حين تأتي إلى إمام مسجد يلعب بالكرة وقت الأذان، فيكون تأنيبك للإمام ليس كتأنيبك للشاب.
وصفوة الأمة هم أهل بدر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر رضي الله عنه: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
والبدريون هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
والمهاجرون: هم الذين تركوا ديارهم وأهليهم في مكة من أجل نصرة الدين.
والأنصار: هم الذين قبلوا أن يأتي هؤلاء من مكة ليؤووهم ويحموهم ويقاسموهم، الأموال، والله يقول: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
فهؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم من المهاجرين والأنصار أعظم أصحاب النبيين على الإطلاق، وهم صفوة الأمة, وقد قال الرسول في ليلة بدر هو ينظر إليهم: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً).
فهم رضي الله عنهم وأرضاهم خير أهل الأرض بعد النبيين والمرسلين.
فهؤلاء الصفوة ما إن انتهت المعركة حتى اختصموا فيما بينهم على الغنائم، وهذا أمر لا يقبل، فرباهم الله جل وعلا، وعاتبهم عتاباً شديداً، فقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1]، ولم يقل هي كذا وكذا وكذا، بل قال: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] أي: ليس لكم فيها اختصاص.
والصحابة يعلمون أن كل شيء أمره لله وللرسول عليه الصلاة والسلام يحكم فيه، ولكن أراد الله أن يؤدبهم فقال: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ} [الأنفال:1].
فإذا علمت أن الله قال في حق أهل بدر: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ))، وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، فاعلم أنه لا ينبغي أن يستكبر أحد عن كلمة (اتق الله)، ولا يوجد أحد فوق مستوى النقد، فكل إنسان عرضة للخطأ، وكل إنسان يخطئ يُنقد، ويقال له: أخطأت، ولو كانت منزلته عالية.
ولكن النقد يختلف، فلا تأتي إلى إمام مسجد أمام عشرات الناس الذين يصلون وراءه وتقف تنقده أمام الناس، فهذا ليس من النصيحة في شيء.
ولا تأتي إلى معلم وتوبخه أو تنهره أمام طلابه، ولا تأتي إلى أمير أو حاكم فتنقده لتذهب هيبته في خطبة جمعه عند الناس، ولا تأتي إلى أب فتنقده أمام أولاده، ولا إلى أم أمام بناتها، ومن أخلص النية في النقد فسيوفق في الطريقة السليمة التي ينقد بها.
ولكن هنا اختلف الأمر لأن المعاتب هنا هو الله تعالى، فالمسألة تختلف جذرياً، وليست نقد كفؤ لكفؤ، وإنما هذا عتاب من الله لأهل بدر، فقال الله جل وعلا لهم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1].
أي: انتصرتم على المشركين، والأهم أن تنتصروا على ما في النفوس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، فانتصار الإنسان على هوى نفسه، وعلى شهواته، وعلى حبه للمال وحبه لأن يكون أفضل من غيره، وما يدفعه إلى الاستئثار بالشيء، هذا الذي ينبغي أن ينتصر عليه، فإذا انتصر الإنسان على شهواته وحبه للكبر والاستعلاء على غيره حقق الانتصار العظيم.