ثم قال سبحانه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43].
الناس يبقون بشراً مهما بلغوا في الارتفاع في الطاعات، والنبي صلى الله عليه وسلم في الذروة من البشر، وهو يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أغضب كما تغضبون)، ولما قيل له إن إحدى أمهات المؤمنين حاضت في الحج غضب وقال: (حلقاء عقراء) تغير كلامه صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر نقل عنه أنه يغضب، وعمر كذلك، فالإنسان مهما بلغ يبقى بشراً؛ إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم معصوم، وغيره من الناس غير معصوم، وعلى هذا أحياناً يبقى في الصدر شيء ولو كان خفيفاً، فالله من إكرامه لأهل الجنة أنهم يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، لينزع هذا الغل الباقي في القلوب قبل أن يدخلوا الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فتقتص بينهم المظالم التي كانت بينهم في الدنيا).
وقد حصل بين علي رضي الله عنه أمير المؤمنين وبين الزبير بن العوام شيء من سوء التفاهم، فكادا يقتتلان في المعركة، فذكر علي الزبير بقول للنبي صلى الله عليه وسلم، فترك الزبير أرض المعركة قناعة منه بقول رسول صلى الله عليه وسلم، فتبعه رجل يقال له: ابن جرموز فقتله، وممن نازع علياً طلحة بن عبيد الله، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقد أحنى ظهره يوم أحد حتى يرقى النبي عليه الصلاة والسلام على ظهره، فقال عليه الصلاة والسلام: (أوجب طلحة) يعني: وجبت له الجنة، ومع ذلك كان هناك سوء تفاهم بسيط بين طلحة والزبير وعلي، كل منهم يرى أن الصواب معه، وكلهم في المحل الأعلى من الصحابة، قال علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الأعراف:43]، فالكمال عزيز، والصحابة رضي الله عنهم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، والله رضي عنهم وشهد برضاه عنهم في كتابه، ولا ينبغي لعاقل أن يخوض فيما كان بينهم، فكلهم مجتهد رضي الله عنهم وأرضاهم، نسأل الله أن يرزقنا جوارهم مع نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم.
قال تعالى: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ))، هذا الكلام يقوله أهل الجنة اعترافاً منهم بأن الهداية من الله -جعلني الله وإياكم برحمته ممن يقولها في الجنة-، وهذا يؤكد على أمر عظيم وهو أنه ينبغي لمن يطلب الهداية أن يطلبها من الله، ولذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، ولا يشمت الإنسان بأحد خوفاً من أن ينتكس كما انتكس غيره، وإنما المؤمن يسأل الله السلامة ولا يشمت بأحد، ويسأل الله غفران الذنوب، وستر العيوب، ورحمته حتى نلقاه.
قال: ((وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ)) أي: هؤلاء المؤمنون: ((أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))، توجد باء تختص بالعوض، وباء تختص بالسبب، مثلاً: لو ذهبت إلى المتجر وسألت صاحب المتجر: بكم هذا القلم؟ فقال لك: بريال؛ فأعطيته ريالاً، فأعطاك القلم، فهذا الريال عوض عن القلم بمعنى: مكافئ له، ولو كان هذا القلم أحسن الأنواع لكان بعشرة مثلاً، فهذه باء عوض، يسألك إنسان: بكم اشتريت هذا القلم؟ فتقول له: بريال هذه الباء باء العوض.
وهناك باء اسمها: باء السبب، مثلاً: تأتي لصاحب متجر فيسألك: من أين أنت؟ فتقول له مثلاً: من جدة، ويكون هو قد سكن جدة قديماً فتسأله: من أي حي؟ يقول: من النزلة مثلاً، ويكون هو ساكن النزلة قديماً، فتطلب ماء؟ فيقول: خذ هذا الماء؛ لأننا أنا وأنت كنا نسكن في حي واحد، فسكنك الحي الذي سكن فيه صاحب المتجر سبب في الحصول على الماء.
مثال آخر: تعفو عن إنسان؛ لأنه صاحب أخيك، يأتي إنسان يصدم سيارتك فتنزل غاضباً فعندما ترى من صدمك، تعرف أنه صاحب لأخيك فتعفو عنه، أنت عفوت عنه لا لأنه أعطاك عوضاً، بل لأن صداقته لأخيك سبب في عفوك عنه.
يقول الله جل وعلا: ((أُورِثْتُمُوهَا)) أي: الجنة ((بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) هذه الباء: باء سبب، أعمالكم سبب في دخول الجنة، وإلا فالأعمال لا يمكن أن تكون عوضاً عن الجنة؛ لأن الجنة أكبر من أعمالنا، لكن قال بعض العلماء من السلف كلمة جميلة في هذا الباب فقال: إن المؤمنين ينجون من النار بعفو الله، ويدخلون الجنة برحمة الله، ويرثون منازل غيرهم بأعمالهم الصالحة.