ثم قال الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75].
إن فضل الله جل وعلا على هذا العبد الصالح لا يعد ولا يحصى، ومنه أن الله أراه ملكوت السماوات والأرض.
(ملكوت) التاء فيها زائدة للمبالغة، والمعنى: أن هناك مُلكاً وهناك ملكوتاً، فالملك: ما تشاهده بعينك، والملكوت: ما وراء ما تشاهده بعينك.
فالله جل وعلا من على إبراهيم بأن أراه ملكوت السماوات والأرض، وقد يكون ذلك برؤية بصرية تؤدي إلى يقين قلبي، وقد تكون مجرد يقين قلبي في صدر إبراهيم.
والمقصود أن الإنسان ينظر إلى ما حوله، والناظرون إلى ما حولهم ينقسمون إلى قسمين: قوم ينظرون نظر إبصار، وقوم ينظرون نظر اعتبار، ونظر الاعتبار خير من نظر الإبصار؛ لأن الإبصار يشترك فيه كل من يبصر، ولكن نظر الاعتبار يختلف عن نظر الإبصار، وليس كل من نظر نظر اعتبار يوفق إلى المقصود، فالذين ينظرون نظر اعتبار منهم مهتدون ومنهم غير مهتدين، فيوجد من النصارى من يتأملون في السماوات، ويتأملون في الأرض، ويتأملون في الناس ويكتبون ويدونون، فهم ينظرون نظر اعتبار، ولكنهم لم يحصلوا على المقصود.
فهؤلاء -وإن نظروا نظر اعتبار- لم يحصلوا على المقصود، والهداية من الله.
ونظر الاعتبار لا يتعدى كونه وسيلة من وسائل الحصول على الهداية، وإلا فالهداية من الله، فمن رام شيئاً فإنه يطلبه من ربه الله جل وعلا.
والله تعالى يقول: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185]، وهنا يقول الله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75].
واليقين درجة عالية من أحوال المؤمنين، ولا شك في أن إبراهيم عليه السلام من أعظم الموقنين، فقوله تعالى: (وليكون من الموقنين) أصل؛ لأن الله قاله نصاً.