فاقتنع عيسى بقولهم، وجاء في بعض الآثار أنه أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوماً، فصاموا فدعا ربه، قال الله جل وعلا بعدها: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة:114].
قوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:114] أي: النبي (اللَّهُمَّ) أصلها (يا الله)، والعرب تحذف أحياناً حرف النداء، فلما حذفت حرف النداء في (يا الله) عوضت بدلاً منه بالميم.
ولا يقال: (يا اللهم) بالميم والياء، فلا يجمع بين البدل والمبدل منه إلا عند الضرورة الشعرية، كما نقل سيبويه وغيره عن الراجز أنه قال: إني إذا ما خطب ألما أقول يا اللهم يا اللهم فهذا شاهد نحوي المقصود به الجمع بين البدل والمبدل منه، ولكن لا يقاس عليه، لأن الأصل أن الياء حذفت وأبدلت عنها الميم.
وقوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا} [المائدة:114] الأصل: (يا ربنا)، وحذف حرف النداء، فأصبح (رب) منادى، ولأنه مضاف نصب مباشرة، فلذلك جاءت الفتحة على الباء.
قال تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة:114] ثم نعت تلك المائدة فذكر بعض أوصافها وتعليلات لذلك الطلب فقال: {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة:114] فذكر عيسى عليه الصلاة والسلام في دعائه لربه مصلحتين: المصلحة الدنيوية في قوله: {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة:114] وقوله: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا} [المائدة:114]، والمصلحة الدينية في قوله: {وَآيَةً مِنْكَ} [المائدة:114] أي: علامة وأمارة على أنك قبلت دعاءنا، فيكون ذلك سبباً في أن يدخل الناس في الدين بعد ذلك أفواجاً.
وقوله: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة:114] العيد الشيء الذي يعود ويتكرر، ولكن لا ينبغي أن يكون ثمة عيد إلا بإذن شرعي، أما أن يتخذ الإنسان من أي مناسبة دينية أو غير دينية عيداً فهذا أمر -إذا ربطه بالدين- لا يجوز شرعاً، أما إذا جعله من باب العادات فهذا باب واسع لا يحسن تفصيله الآن، ولكن نقول: الأشياء الشرعية لا تثبت إلا بشيء شرعي، فالله جل وعلا على مر العصور يجعل من بعض عبادات أنبيائه ورسله وعباده سنناً يجتمع الناس عليه، فكلنا في الطواف والسعي نمر على الصفا والمروة لنحيي سنة هاجر، ولكن هذا الإحياء لم يكن من أنفسنا، إنما كان بإذن من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فنطوف بالبيت كما طاف به إبراهيم عليه الصلاة والسلام من قبل، ونرمي الجمار كما رماها إبراهيم من قبل، فنحيي ملة إبراهيم، ولكن هذا أمر لم نجتهد فيه نحن من أنفسنا، وإنما شرعه الله تبارك وتعالى لنا، والدين لا يكون باجتهاد شخصي أبداً، قال الله جل وعلا: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].