وقوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83]، أي: انقاد وخضع واستسلم لله تبارك وتعالى (طَوْعًا وَكَرْهًا)، هذا من الأضداد، ويسميه البلاغيون طباقاً، فإذا جاءت الكلمتان متضادان سمي البلاغيون ذلك طباقاً، ومنه الليل النهار، وقوله: (طوعاً) معرف، وكذلك كرهاً، ونفرق بين (كَرهاً) بفتح الكاف و (كُرهاً) بضم الكاف بأن الكَره هو المشقة الخارجة عنك التي لا تريدها، أي: الأمر الذي تجبر عليه وأنت لا تريده.
وأما (الكُره) -بضم الكاف- فهو المشقة التي تريدها رغم أن فيها مشقة؛ لأن فيها منفعة رغم مشقتها.
وبالأمثال يتضح الحال، فالكره جاء في مثل قول لله تبارك وتعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83]، وقول الله تبارك وتعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء:19]، أي: وهن غير راضيات.
وأما (الكُره) فإن الله كتب الحمل على بنات حواء، وقال سبحانه وتعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف:15]، فمشقة التي تأتي للمرأة مشقة مرغوبة، فما من امرأة إلا وهي تريد أن تلد وتحمل، فهي مشقة مرغوبة، ولذلك عبر الله جل وعلا عنها بالكُره.
قال الله جل وعلا عن الجهاد في سبيله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، بضم الكاف، والجهاد فيه مشقة؛ لأنه فيه ذهاب أرواح وذهاب أبدان وذهاب أموال، وينال الناس فيه من العناء والمشقة الشيء العظيم، ولكن ما فيه من أجر وما يتعلق به من ثواب وما ينال المسلم به من قربات عند الله يجعله محبوباً إلى النفوس، ولذلك عبر الله جل وعلا عنه بضم الكاف.
ثم بين سبحانه وتعالى دلالة ملكه وعظيم عطائه فقال جل ذكره: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]، أي: أن مآبهم ومردهم إلى الله تبارك وتعالى، وهذه آية من مثاني القرآن سيأتي عنها الحديث تفصيلاً.
هذا ما أردنا بيانه، ونسأل الله جل وعلا لنا ولكم التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.