الْقَاسِم الْقشيرِي وَأَبُو حَاتِم بن حبَان وَأَبُو طَاهِر الْحُسَيْن بن عَليّ الأردستاني، وَصرح بِهِ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح ومحيي الدّين النَّوَوِيّ والحافظ محب الدّين الطَّبَرِيّ وَغَيرهم. وَأما حَدِيث: " لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد ". فَلَا دلَالَة فِيهِ على النَّهْي عَن الزِّيَارَة، بل هُوَ حجَّة فِي ذَلِك، وَمن جعله دَلِيلا على حُرْمَة الزِّيَارَة فقد أعظم الجرأة على الله وعَلى رَسُوله، وَفِيه برهَان قَاطع على غباوة قَائِله، وقصوره عَن ذوق صافي الْعلم، وقصوره عَن نيل دَرَجَة كَيْفيَّة الاستنباط وَالِاسْتِدْلَال، والْحَدِيث فِيهِ دَلِيل على اسْتِحْبَاب الزِّيَارَة من وَجْهَيْن؛ الأول: أَن مَوضِع قَبره الشريف أفضل بقاع الأَرْض، وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل الْخلق وَأكْرمهمْ على الله تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لم يقسم بحياة أحد غَيره، وَأخذ الْمِيثَاق من الْأَنْبِيَاء بِالْإِيمَان بِهِ وبنصره، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: " وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق النَّبِيين لما آتيتكم من كتاب وَحِكْمَة ثمَّ جَاءَكُم رَسُول مُصدق لما مَعكُمْ لتؤمنن بِهِ ولتنصرنه. . " الْآيَة. وشرفه بفضله على سَائِر الْمُرْسلين وَكَرمه؛ بِأَن ختم بِهِ النَّبِيين وَرفع دَرَجَته فِي عليين، فَإِذا تقرر أَنه أفضل المخلوقين وَأَن تربته أفضل بقاع الأَرْض، اسْتحبَّ شدّ الرّحال إِلَيْهِ وَإِلَى تربته بطرِيق الأولى. الْوَجْه الثَّانِي: أَنه اسْتحبَّ شدّ الرّحال إِلَى مَسْجِد الْمَدِينَة، وَلَا يتَصَوَّر من الْمُؤمنِينَ المخلصين انفكاك قَصده عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَيف يتَصَوَّر أَن الْمُؤمن الْمُعظم قدر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدْخل مَسْجده ويشاهد حجرته ويتحقق أَنه يسمع كَلَامه ثمَّ بعد ذَلِك يَسعهُ أَن لَا يقْصد الْحُجْرَة والقبر، وَيسلم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذَا مِمَّا لَا خَفَاء فِيهِ على أحد، وَكَذَلِكَ لَو قصد زِيَارَة قَبره لم يَنْفَكّ قَصده عَن قَصده الْمَسْجِد، وَمن الدَّلِيل على الزِّيَارَة الْأَحَادِيث الْكَثِيرَة الصَّحِيحَة فِي فضل زِيَارَة الإخوان فِي الله، فزيارة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى وَأولى. وَمِنْهَا: أَن حرمته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاجِبَة حَيا وَمَيتًا، وَلَا شكّ أَن الْهِجْرَة إِلَيْهِ كَانَت فِي حَيَاته من أهم الْأَشْيَاء فَكَذَا بعد مَوته. وَمِنْهَا: الْأَحَادِيث الدَّالَّة على اسْتِحْبَاب زِيَارَة الْقُبُور، وَهَذَا فِي حق الرِّجَال مجمع عَلَيْهِ، وَفِي حق النِّسَاء فِيهِ خلاف، هَذَا فِي غير قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ وَأما زِيَارَة قَبره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فالإجماع على استحبابها للرِّجَال وَالنِّسَاء. وَمِنْهَا: أَن الْإِجْمَاع على جَوَاز شدّ الرّحال للتِّجَارَة وَتَحْصِيل الْمصَالح الدُّنْيَوِيَّة فَهَذَا أولى؛ لِأَنَّهُ من أعظم الْمصَالح الأخروية. وَمِنْهَا: إِجْمَاع النَّاس العملي على زيارته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَشد الرّحال إِلَيْهِ بعد الْحَج، من بعد وَفَاته إِلَى زَمَاننَا هَذَا. وَمِنْهَا: الْإِجْمَاع القولي. قَالَ