غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [سورة إبراهيم: 37] وفي هذا ما قد يعني قيام البيت الحرام فعلًا في صورة أولية من قبل عهد إبراهيم, وأن إبراهيم توخى حمايته وحرمته فأودع زوجته هاجر المصرية وولده إسماعيل في رحابه. وذاك احتمال يزيد منطقية عما قيل من احتمال دعاء إبراهيم بالدعاء السابق عقب بنائه البيبت لأول مرة. وهو أمر لم يتم بطبيعة الحال إلا بعد أن انقضت على إسكانه أهله عنده سنوات طوال امتدت حتى شب إسماعيل عن طوقه وعاون أباه في البناء (انظر سورة البقرة: 127).
ولعل البيت المحرم أو بناء الكعبة في صورته الأولية تلك كان هو المعني بتسمية البيت العتيق التي ذكرتها له آيتان من سورة الحج 29، 33، إذا أخذت لفظة العتيق هنا بمعنى شدة القدم وهو الشائع إلى جانب معاني العتق والكرم والجمال، كما تذكر قواميس اللغة. وإن كانت هذه التسمية قد انصرفت بعد ذلك إلى بقية صفات البيت الشريف واقترنت بها. ولعل الحجر الأسود أو الأسعد هو كل ما بقي من بنيان ذلك البيت العتيق، أو هو ما أمكن الاحتفاظ به منه، ونتيجة لقيمته وندرته اكتسب شيئًا من علو المكانة وإعزاز الرسول له، والعرب ثم المسلمين بكافة، باعتباره أثرًا جليلًا فريدًا من ماض كريم بعيد. وقد لا يكون من بأس بعد هذا الفرض المقترح من النظر كذلك بعين الاعتبار الروحي إلى بعض روايات المفسرين الإسلاميين عن ماضي الحرم والحجر وارتباطهما بمعجزات سماوية لا تتطرق إليها الدراسات التاريخية عادة في مناقشاتها الحديثة، ولكن لا بأس معها في الوقت ذاته من تذكر مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن هذا الحجر بما معناه والله إني لأعلم أنك حجر لا يضر ولا ينفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك، متأدبًا في ذلك بأدب الإسلام وأدب الرسول.
وظل الحجر الأسود على طول الأمد علامة مميزة لبداية الطواف بالكعبة المشرفة.
ويبدو أن عندما تقادم البيت العتيق وطال العهد به، وهجر ما حوله وطمست بئر زمزم المجاورة له، وانقطع بهذا رواده المؤمنون به أو كادوا، تطلب الأمر الإلهي إقامة قواعده من جديد، وإعادة تعميره وإحياء شعائره. وتكفل إبراهيم بهذا وعاونه فيه ولده إسماعيل بعد أن شب عن طوقه, في مثل قول الذكر الحكيم: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وغني عن الذكر أن بناء الكعبة قد جدد أو رمم بعد ذلك أكثر من مرة،