لو عقلوا إلا فضيلة له ومنبهة عليه، لأنه جاد في زمان يعقم الخواطر ويصدئ الاذهان، فلم يزل فيه وحده بلا مضاه يساميه ولا نظير يعاليه، فكان كالقارح الجواد يتمطر في المهامه الشداد، لا يواضح نفسه إلا نفسه ولا يتوجس إلا جرسه " (?) . ولكن هذا الإعجاب لم يكن ليحجب عن عيني ابن جني أن في شعر المتنبي صعوبتين: إحداهما تعسف في بعض ألفاظه خرج بها عن القصد في صناعة الأعراب، إذ جاء بالشاذ وحمل على النادر، والثانية عمق في معانيه يتطلب إعمال الفكر وطول البحث وتكرار التأمل لأنه شاعر يخترع المعاني ويتغلغل فيها ويستوفيها.

وهاتان الصعوبتان لا يذل لهما إلا شرح الديوان، لان المتنبي لم يتورط فيهما عن جهالة أو غفلة، بل كان عالماً عارفاً بما يصنع، وابن جني نفسه خير من يفي بمتطلبات هذا العمل لا لانه، وحسب، دقيق المعرفة بالنحو واللغة، بل لأن ملازمته لأبي الطيب وقراءته لشعره وسؤاله له عن بعض الدقائق فيه والمحاورة الطويلة بينهما حول كل ما يعرض من شئون في ذلك الشعر، كل ذلك جعله مهيأ لإنجاز تلك المهمة على نحو لم يتح لسواه، يقول ابن جني في توضيح هذا الموقف: " لأننا لم نكن نتجاوز شيئاً من شعره وفيه نظر إلا ويطول القول فيه جداً حتى ينقطع فيه الريب؛ ولقد كان يستدعي تنكيتي عليه ويبعثني على البحث لما كان ينتج بيننا ولما كنت أورده عليه مما لم يكن عنده ان مثله يسأل عنه لينظر فيه ويتأمله قبل أن يضطر إلى الجواب عنه في وقت ضيق أو محفل كبير فلا يكون قدم الروية والنظر فيه فيلحقه خجل وانقطاع لكثرة خصومه وتوفر حساده " (?) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015