(والشاهد في قيد الأوابد) .
ومن اللافت للنظر أن الحاتمي يحاول دائماً أن يكسب رسالته ثوب الواقعية، لا يذكر الأشخاص المعروفين وحسب. بل بأنه يسمح للمتنبي أن يرد عليه وأن يطيل الرد أحياناً. ففي المجلس الأول يورد المتنبي أمثلة من عيوب كبار الشعراء ثم يعتذر عن خطأه بقوله: " فهؤلاء المبرزين في حلبات الشعر السابقون إلى حلو القول ومره والذين وقع الإجماع على تقدمهم في ضروبه وفتحهم ما استغلق من أبوابه ليس منهم غلا من قد طعن في شعره ومن قد أخل بالإحسان مع تناصر إحسانه، والكلام كله لا يجري على سنن واحد ولا يأتي متناصفاً ولا متكافئاً، ولابد من سقطة يهفو بها خاطر وعثرة يزل بها لسان، ومن هذا الذي تناسب كلامه أو سلم من التتبع شعره؟ وما أنا ببدع منهم، وإذا أنصفت من نفسك ألفيتها محجوجة " (?) ، وفي مثل هذا القول من الأنصاف ما يثير الحاتمي إلى الإمعان في تبيان العيوب، لأنه لا يرى من حق المتنبي أن يضع نفسه في مصاف من تقبل منه الهفوة بعد الهفوة لكثرة حسناته، ولأنه يريد أن يلقن المتنبي دروساً، فكلما وضع على لسانه حجة، جعل فيها وهناً لينفذ منه؛ وقد اتهمه المتنبي بأنه يحب الإغراق والمبالغة في الشعر وينكر ما عداه، فاتخذ هذا ذريعة لإفهامه أن الإغراق شيء والمبالغة شيء آخر، ويورد عليه المثال الذي أورده ابن طباطبا من قبل، فمن المبالغة قول عنترة:
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي أما الغلو البعيد عن الحقيقة فهو قول المثقب:
تقول إذا درأت لها وضيني ... أهذا دينه أبداً وديني