لماذا يهون قدامة من شان الاستعارة كما استبعد الآمدي الاستعارات البعيدة؟
وهذا التهوين الضمني من شان الاستعارة يشير إلى شيئين: أولهما أن المنهج العقلي لا يستلطف مثل هذا التصور الجامح الذي لا يخضع لتحديدات منطقية، فالاستعارة تحطم كثيراً مما بناه قدامة بصبر وتؤدة، والثاني ان قدامة لو لم يخضع لمنطقه الصارم لقدرنا أيضاً أن يقف مثل هذا الموقف نفسه في بيئة كانت ثائرة على ما يسميه قدامة " ما فحش ولم يعرف له مجاز " من أمثال استعارات أبي تمام التي انصب عليه من أجلها اشد هجوم. ولهذا رأينا قدامة هنا يحتكم للعادة، أي الذوق العام، في قبول الاستعارة. وليس احتكامه إلى العادة قاصراً على هذا الجانب من الشعر، بل أنه يتناول شئوناً أخرى في المعاني، حتى ليعد مخالفة العرف عيباً فيقول: " ومن عيوب المعاني مخالفة العرف والإتيان بما ليس في العادة والطبع مثل قول المرار:
وخال على خديك يبدو كأنه ... سنا البدر في دعجاء باد دجونها فالمتعارف المعلوم أن الخيلان سود أو ما قاربها في اللون، والخدود الحسان غنما هي البيض وبذلك تنعت، فأتى هذا الشاعر بقلب المعنى " (?) .
انعدام الاهتمام بالحالة النفسية في نقد قدامة
ثم أن الاهتمام بالاستعارة يعني من بعض جوانبه الاهتمام بقوة الخلق عند الشاعر، ولن تجد ناقداً مثل قدامة، قصر حديثه كله على الشعر نفسه دون أن يلتفت للشاعر أو للمتلقي. فليس يدخل في نقد قدامة أي حديث عن الحالات النفسية بالمعنى الدقيق ولا عن الطبع وما أشبه من هذه الأمور التي تعرض لها ابن قتيبة، وليس يهتم كثيراً بالسامعين وحالتهم النفسية عند تلقي الشعر.