تغيرت النظرة إلى التاريخ عما كانت عليه قبل هذا القرن, فأصبح علمًا من العلوم الاجتماعية له قواعد خاصة, إذ استبعدت شواهد التاريخ المبنية على مجرد العقيدة والأسطورة، وجعلت الشك أساسا للدراسة وواسطة للمعرفة1. بل وجب على المؤرخ أن يرجع إلى الآثار المادية والأدبية التي تنبئ عن الماضي، فيستخرج نصوصها وأشكالها، ثم يستنطقها ويخضع رواياتها للتدقيق والنقد، فلا يقبل منها إلا ما ثبت صدقه وصحته، حسب قواعد علمية معينة، ثم يعمد إلى ربط الحقائق المفردة بعضها ببعض ليستخرج منها صورة الماضي أقرب ما تكون إلى الواقع2، ويفسرها تفسيرًا صحيحًا بقدر الإمكان.
ومن البديهي أن الصورة المستخرجة للحقائق التاريخية تبقى خاضعة في المستقبل للتعديل حسبما يظهر من أصول ووثائق جديدة، أو ما يكتشف من حقائق كانت مجهولة سابقا، أو ما يوجب تصحيح بعض ما حصل من أخطاء في التدقيق والاستنتاج. كل ذلك يفرض على المؤرخ أن تكون له صفة العالم المجرد من الغايات، الذي لا يميل مع العاطفة والأهواء، سواء أكانت وطنية أم حزبية أم قومية، بل من واجبه أن يلتزم النزاهة والتجرد التامَّيْنِ.
يقول الباحث إرنست كاسيرر: "المؤرخ الحقيقي يستبعد كل الاختراعات والخيالات من مؤلفاته ويلتزم الحقيقة التزامًا كليًّا"3. ويعتقد كاسيرر إنه إذا كان