على أن الأمر يختلف بالنسبة للحضر؛ ذلك أن التجارة هي التي حظيت بالاهتمام في المجتمعات الحضرية، فأقبل القوم عليها إقبالًا شديدًا إلى درجة أن المؤرخ اليوناني "سترابون" الذي اهتم بأحوال العرب في الجاهلية، كان يرى أن كل عربي فيها تاجر أو دليل1. ويقول "درمنجهايم": إن العرب كانوا الرواد الأوائل للتجارة العالمية، ولم يكن باستطاعة الرومان القدماء الاستغناء عنهم في هذا الميدان. وبلغ من أهمية التجارة لديهم أن الملوك والزعماء كانوا أحيانا تجارًا، فملوك المناذرة كانوا يرسلون اللطائم "القوافل التجارية" إلى أسواق الحجاز في كل عام، كما كان ولاة الأمر في تدمر قد مارسوا التجارة، وكذلك علية قريش ورؤساؤها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التجارة كانت العامل المهم في نشوء دول الشمال العربي. وكان أثرها كبيرًا على أوضاع دول الجنوب العربي، من حيث تذبذب عواصمها، وانتقالها تبعا لانتقال الأهمية التجارية من مكان إلى آخر، حتى إن سقوط بعض الدول ونشوء غيرها، سواء في الجنوب أو في الشمال، كان على الغالب مبنيا على أساس ازدهار التجارة في الدولة الجديدة الناشئة، وانحطاط التجارة لدى الدولة الزائلة؛ بسبب تحول الطرق التجارية عنها، وانحيازها إلى الدولة الناشئة.
وفضلا عن ذلك، فإن العامل التجاري قد كيَّف سياسة الدول الأجنبية المحيطة بشبه جزيرة العرب، وحدد موقفها تجاه بعض الدول التي قامت فيها، إذا طمعت فيها كل