بعد معركة النهروان، مما شكل بداية النهاية لحكم علي، فقد انفض عنه معظم أفراد جيشه، وانسلوا من معسكره في النخيلة التي عاد إليها، وذلك بحجة الراحة، وشحذ الأسلحة "نفدت نبالنا، وكلت سيوفنا، ونضلت أسنة رماحنا، وعاد أكثرها قصدًا1، فارجع إلى مصرنا، فلنستعد بأحسن عدتنا"2.

والواقع أن النصر الذي حققه علي في النهروان كان مريرًا في نفوس الكفويين، وفجر التناقضات في صفوف جيشه؛ لأن المعركة كانت بين الكوفيين أنفسهم، فتقاتل رجال من قبيلة واحدة، وعشيرة واحدة، وأسرة واحدة، وقتل الكوفيون إخوانهم وأبناءهم، وأعمامهم وأهل عشائرهم، ودفن المنتصرون موتاهم بكل ورع، وقد ذكرنا بأن الجرحى أرسلوا إلى قبائلهم لكي يعالجوا، بأمر من علي، من هنا جاء رد الفعل السلبي على مواصلة القتال.

وهكذا تخلى الكوفيون عن علي في أحرج لحظات المواجهة مع معاوية، فتركوه بكل بساطة، وهم منهكون من التعب الداخلي، ومن تأنيب الضمير، ومن الاستحياء، ولم يتذمروا منه؛ لأنهم أدركوا أنه مثلهم تمامًا، تجاوزته الأحداث3.

أثارت هذه التطورات غضب علي، فحنق على أهل الكوفة لخذلانهم له، وحاول استنهاضهم وحثهم على نصرته، كما أرسل الوفود إلى أطراف بلاد الشام، وأذربيجان والسواد لحشد المقاتلين، لكن جهوده لم تثمر، فأدرك عندئذ واقعه المرير، مما دفعه إلى تأجيل قراره بمهاجمة أهل الشام، واعتكف في عاصمته، وطوى مشاريع القتال بانتظار ظروف أفضل.

قابل هذا التطور السلبي في مجرى الأحداث، وفي المستوى العسكري على الجبهة العراقية، التي عجزت حينذاك عن تعويض النقص في العدد، وفي الاندفاع؛ تحول إيجابي في التخطيط العسكري على الجبهة الشامية، حيث تحول معاوية من الدفاع إلى الهجوم، وبهذه الحركة كانت النهاية الفعلية للصراع الواسع على المستوى العسكري بين العراق والشام، حيث لم يملك علي أكثر من مواجهة الغارات التي أخذت تستهدف مواقعه من جانب القوات الشامية4.

والواقع أن معاوية اتبع خطة تكتيكية تهدف إلى عزل علي في العراق، وإحكام الحصار عليه، ثم إثارة جبهته الداخلية، حتى القضاء عليه، فبعد السيطرة على مصر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015