وقد اتخذ هذا القرار من واقع استحالة البقاء في الحجاز الذي أفرغته الفتوح من طاقاته البشرية والاقتصادية، وانتقال محاور الصراع الأساسية إلى مناطق الأطراف البعيدة عنه، فخرج من المدينة في الأيام الأخيرة من شهر ربيع الآخر عام 36هـ، وخرج معه وجوه المهاجرين، والأنصار بالإضافة إلى بقايا البصريين، والكوفيين في المدينة، أي من قتلة عثمان، أما المصريون فقد عادوا إلى مصرهم، وكلما توغلنا في الزمان نلاحظ إلحاقًا متزايدًا على العدد الكبير من الصحابة الخارجين معه، أو المنضمين إليه لاحقًا للاشتراك في معركة الجمل، ثمانمائة من الأنصار وأربعمائة ممن شهد بيعة الرضوان1، نظرًا لما يكسبه تأييدهم من ضمانه معنوية كبيرة في مواجهة عداوة، أو ابتعاد أكثرية المهاجرين، والتباس القراء، وكراهية القرشيين المتحالفين مع الأمويين، والنفوذ الكبير لعائشة، وسيشكل خروجه نقطة تحول فاصلة في تاريخ صدر الإسلام، والدولة الإسلامية؛ لأنه يتضمن الخروج النهائي لمؤسسة الخلافة من الجزيرة العربية2.

يمم علي وجهه شطر العراق وعسكر حول مكة، ثم حط رحاله في الربذة حيث بلغته تفاصيل ما جرى في البصرة، كما استقبل فيها عاملة مغلوبًا مطرودًا، فأبدى ارتياحه بأن خصومه لم يقصدوا الكوفة3، ويبدو أنه لم يكن على علم بتطورات الموقف فيها، ثم توجه إلى ذي قار بين الكوفة، والبصرة فيما وراء الفرات، واتخذها قاعدة لتجمع قواته، واستنفار الكوفيين، وأرسل رسلًا إلى الكوفة من أجل ذلك، وكتب إليهم يقول: " ... فإني اخترتكم والنزول بين أظهركم لما أعرف من مودتكم، وحبكم لله عز وجل ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن جاءني ونصرني فقد أجاب الحق، وقضى الذي عليه"، "إني أخترتكم على الأمصار، وفزعت إليكم لما حدث، فكونوا للدين أعوانًا وأنصارًا، وأيدونا وانهضوا إلينا، فالإصلاح ما نريد، لتعود الأمة إخوانًا، ومن أحب ذلك وآثره فقد أحب الحق وآثره، ومن أبغض ذلك فقد أبغض الحق وغمصه"4.

كان رجل الكوفة المهم آنذاك واليها أبا موسى الأشعري، ويتمتع بنفوذ كبير فيها؛ لأن الكوفيين قد اختاروه ليحل محل الوالي الأموي، وفرضوه على هذا النحو على عثمان، واجتهد كثيرًا لتهدئة غليان الكوفة، وهكذا طرح نفسه كوسيط، وكرجل الإجماع، وتبنته الكوفة واعترفت به أميرًا عليها، وربما اكتسبت ذلك النفوذ من واقع

طور بواسطة نورين ميديا © 2015