وعاش أحداثها عن كثب، ولمصداقيّته في عرضه للتاريخ، رغم أنه كان بطريركا على الإسكندرية، فلم يتعصّب، بل عرض الوقائع والأحداث كما جرت، وأظهر حياديّة في جميع ما دوّنه، وكان صادقا مع نفسه، أمينا على رسالة المؤرّخ المدقّق، وقد أكّد لنا ذلك، حين قام بتنقيح كتابه وتعديل مادّته أكثر من مرّة قبل أن تصلنا النسخة الأخيرة التي اعتمدها، وأثبت فيها الحقائق التاريخية التي ارتضاها.
وقد وضع الأنطاكيّ كتابه بناء على رغبة بعض أصحابه-كما يقول في مقدّمته-فانتهج النهج الذي سار عليه سلفه «سعيد بن البطريق» بطريرك الإسكندرية، وذكر أيام الملوك والخلفاء والوزراء والكتّاب والأمراء والقادة، وتواريخ وفياتهم، كما ذكر أسماء بطاركة الإسكندرية وبيت المقدس وأنطاكية والقسطنطينية، وأعمارهم، وبعد تأليفه للكتاب قام بتغييره وألّفه تأليفا جديدا، ثم انتقل من الإسكندرية إلى أنطاكية سنة 405 هـ. /1016 م. فوقف فيها على مصادر جديدة لأخبار ندّت عنه من قبل، فقام بتنقيح كتابه وأجرى عليه تعديلا كبيرا، فحذف بعضه، وزاد عليه جديدا، حتى قرّ رأيه على ما صنّفه، ونبّه إلى نسخته الأخيرة المزيدة والمعدّلة، وأشار إلى عدم الاعتناء أو الاهتمام بالنسخ الأخرى التي سبق أن صنّفها، واستهلّ كتابه بوصل ما انقطع من كتاب سلفه «ابن البطريق» فبدأ بالفصل الأخير من كتابه المعروف ب «تاريخ أوتيخا»، معتمدا على آخر نسخه أيضا، والتي وصل فيها إلى خلافة الراضي العباسي سنة 326 هـ. /938 م.
والكتاب بحقّ، مصدر أساسيّ لكل من يدرس تاريخ الحقبة المعروفة بالعصر الوسيط، لغنى المادّة التاريخية التي يحتوي عليها، من جهة، ولاتّساع المساحة الجغرافية التي يغطّي أحداثها، فهو لا غنى عنه-كما أسلفت-في دراسة تاريخ الدولة الفاطمية، وأخبار الدولة العباسية، وأخبار الحمدانيين، والصراع بين المسلمين والبيزنطيين، وأخبار الصراع بين الأتراك السلاجقة، وبني بويه الدّيالمة، والعلاقات بين المسلمين والنصارى واليهود، وظهور الدعوة الدرزيّة، وعلاقات