بُنيّ أمّا الفاقة فكانت شديدة، وقد اجتهدتُ أن أنال من الطّعام، ولكن بيني وبين اللَّه علامة، إذا لم يكن الطّعام رَضيّا ارتفع إلى أنفي منه زَفْرة1، فلم تقبلْه نفسي؛ فقد رميت بتلك اللُّقْمة فِي دِهْليزكم2.
وقال ابن مسروق: قال حارث المحاسبيّ: لكلّ شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل التَّوفيق.
قال: وسمعت الحارث يقول: ثلاثة أشياء عزيزة: حُسن الوجه مع الصيانة، وحُسن الخَلْق مع الدِّيانة، وحُسن الإخاءِ مع الأمانة3.
ومن كلامه: تَرْكُ الدُّنيا مع ذِكرها صفة الزّاهدين. وتَرْكها مع نسيانها صفة العارفين4.
وقد كان الحارث كبير الشّأن قليل المِثْل، لكنّه دخل في شيء يسير من الكلام، فنقموه عليه.
قال أحمد بْن إسحاق الصِبْغيّ الفقيه: سمعت إسماعيل بْن إسحاق السّرّاج يقول: قال لي أحمد بْن حنبل:
يبلغني أنّ الحارث هذا يُكِثر الكَوْن عندك، فلو أحضرتَه منزلَكَ وأجلستني من حيث لا يراني، فأَسْمَع كلامَهُ.
فقصدت الحارث، وسألته أن يحضرنا تلك اللّيلة، وأن يُحضِر أصحابَه.
فقال: فيهم كثرة، فلا تُزِدْهم على الكُسْبِ والتَّمر.
فأتيت أَبَا عبد الله فأعلمته، فحضر إلى غرفةٍ واجتهد فِي وِرْده، وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا، ثُمَّ صلُّوا العتمة، ولم يصلُّوا بعدها، وقعدوا بين يدي الحارث لا ينطقون إلى قرب نصف اللّيل. ثُمَّ ابتدأ رَجُل منهم، فسأل عن مسألة، فأخذ الحارث فِي الكلام، وأصحابه يستمعون وكأن على رءوسهم الطَّير، فمنهم مَن يبكي، ومنهم مَن يحنّ، ومنهم من يزعق، وهو في كلامه.