قال الْجُنَيْد: مات والدُ الحارث يوم مات، وإنّ الحارث لَمُحْتَاجٌ إلى دانِق، وخلّف مالا كثيرا، فما أخذ منه الحارث حبة وقال: أهلُ ملَّتين لا يتوارثان. وكان أَبُوهُ واقفيّا1، يعني يقف في القرآن لا يقول: مخلوق، ولا غير مخلوق2.
وقال أبو الْحَسَن بْن مُقْسِم: سمعت أَبَا عليّ بْن خيران الفقيه يقول: رَأَيْت الحارث بْن أسد بباب الطّاق متعلّقا بأبيه، والنّاس قد اجتمعوا عليه يقول له: طلّق أمي، فإنّك على دينٍ وهي على غيره3.
وقال أبو نُعَيّم: أنبأنا الخلدي: سمعت الجندي يقول: كان الحارث يجيء إلى منزلنا فيقول: اخرج معنا نُصْحِر.
فأقول: تُخْرجني من عُزْلتي وأمْني على نفسي إلى الطُّرُقات والآفات ورؤية الشَّهَوات؟ فيقول: أخرج معي ولا خوف عليك.
فأخرج معه. فكأنّ الطريق فارغ من كلّ شيء، لا نرى شيئًا نكرهه. فإذا حصلتُ معه فِي المكان الَّذِي يجلس فِيهِ يقول: سَلْني.
فأقول: ما عندي سؤال.
ثُمَّ تَنْثَالُ عليَّ السؤالات، فأسأله فيجيبني للوقت، ثُمَّ يمضي فيعملها كُتُبًا.
وكان يقول لي: كم تقول عُزْلتي أُنسي، لو أنّ نصف الخلق تقرّبوا منّي ما وجدتُ بهم أُنْسًا، ولو أنّ النّصف الآخر نأى عنّي ما استوحشت لبُعْدِهم.
واجتاز بي الحارث يومًا، وكان كثير الضّرّ، فرأيتُ على وجهه زيادة الضّرّ من الجوع. فقلت: يا عمُّ، لو دخَلْتَ إلينا؟ قال: أوَ تَفعَل؟
قلت: نعم، وتَسُرّني بذلك.
فدخلتُ بين يديه، وعمدت إلى بيت عمّي، وكان لا يخلو من أطْعِمة فاخرة، فجئت بأنواع من الطّعام، فأخذ لُقْمةً، فرأيته يلوكها ولا يَزْدَرِدها. فوثب وخرج وما كلَّمني. فلمّا كان من الغد لقيته فقلت: يا عمّ، سَرَرْتني، ثم نغصت علي. قال: يا