قال: وكيف ذاك؟ قلت: لأنّك قد انصرفت من عندي ثمّ عُدت إليّ.
قال شرطك أن تصيّرني إلى مأمني. فإنْ كان دارك مأمني فلستُ بخائف، وإن كان مأمني داري فردّني إلى البلقاء.
فجهدتُ به إلى أداء الجزية، على أن أهبه في السّنة ألفي دينار، فلم يفعل. فأَذِنْتُ له في الرجوع إلى مأمنه. فرجعَ ثمّ أسعرَ الدُّنيا شرًّا.
ثمّ حُمِل إلى عُبَيْد الله بن المهديّ مالٌ من مصر فخرج اليهوديّ متعرّضًا له، فكتب إليّ النُّعْمان بذلك، فكتبتُ إليه آمره بمحاربة اليهوديّ إنْ عرض للمال. فخرج النُّعْمان ملتقيًا للمال، ووافاه اليهوديّ، ومع كلّ واحد منهما جماعته. فسأل النُّعْمان اليهوديّ الانصراف، فأبى وقال: إنْ شئتَ خرجت إليك وحدي وأنت في جماعتك، وإنْ شئتَ تَبَارَزْنَا، فإنْ ظفرتُ بك انصرف أصحابك إليّ وكانوا شركائي في الغنيمة، وإنْ ظفرتَ بي صار أصحابي إليك. فقال له النُّعْمان: يا يحيى، ويْحَكَ أنت حدثٌ، وقد بُليت بالعُجْب. ولو كنت من قريش لما أمكنك مُعَارة السلطان. وهذا الأمير هو أخو الخليفة. وإنّا وإن فَرَّقَنا الدّينُ أحبُّ أن لا يجري على يديّ قتل فارسٍ من الفرسان، فإن كنت تحب ما أحبّ من السّلامة فأخرج إليّ، ولا يُبْتلى بك وبي مَن يَسوءُنا قتله.
قال: فخرجا جميعًا وقت العصر، فلم يزالا في مبارزةٍ إلى الظّلام، فوقف كلٌّ منهما على فَرَسه، واتّكأ على رمحه، إلى أن غلبت النُّعْمان عيناه، فطعنه اليهوديّ، فوقع سِنَان رُمْحه في مِنْطَقة النُّعْمان، فدارت المِنْطَقة وصار السِّنان يدور بدَوَران المِنْطَقة إلى الظَّهْر، فاعتنقه النُّعْمان وقال لَهُ: أغدرًا يا ابن اليهوديّة؟ فقال له: أوَ محاربٌ ينام يا ابن الأمة واتّكئ عليه النُّعْمان عند مُعانقته إيّاه، فسقط فوقه، وكان النُّعْمان ضخْمًا، فصار فوق اليهوديّ، فذبحه وبعث إليَّ برأسه. فلم يختلف عليّ بعدها أحد. ثمّ ولي بعدي دمشقَ سليمانُ بنُ المنصور، فانتهبه أهل دمشق وسَبَوْا حُرُمَه، ثمّ ولي بعده أخوه منصور، فكانت على رأسه الفتنة العظمى. ثمّ لم يُعط القوم طاعة بعد ذلك، إلى أن افتتح دمشقَ عبدُ الله بنُ طاهر سنة عشرٍ ومائتين.
وكان السّبب في صرفي عن دمشق للمرة الأولى أنّني اشتهيت الاصطباح فأغلقتُ الأبواب.