ويصفِّقُ إِلى أن تَعبَ. ثُمَّ جلس وهو يَقُولُ: ما أصنع ببهائمَ [1] لا يفرّقون بين الدّرّ والبعر! فاعتذرت إِلَيْهِ، وأنشدني شيئا آخر.
وسألته عَنْ أَبِي العلاء المعرِّيّ، فنهرني، وقال: ويلك كم تسيء الأدب بين يديَّ، ومِنْ ذَلِكَ الكلب الأعمى حتّى يُذكرَ في مجلسي! قلتُ: فَما أراك ترضى عَنْ أحد [2] . قَالَ: كيف أرضى عنهم وليس لهم ما يُرضيني! قلت: فَما فيهم مَنْ لَهُ ما يُرضيك؟ قَالَ: لا أعلم إلّا أن يكون المتنبّي في مديحه خاصَّة، وابنُ نُباتة في خُطَبه، وابنُ الحريريّ في مقاماته. قلت: عجب إذ لم تُصَنِّف مقاماتٍ تَدْحَضُ مقاماتِه! قَالَ: يا بُنَيّ، اعلم أنّ الرجوعَ إِلى الحقّ خيرٌ من التّمادي في الباطل، عملتُ مقاماتٍ مرّتين فلم ترضني، فغسلتها، وما أعلم أنّ الله خلقني إلّا لأُظهرَ فضلَ ابن الحريريّ. ثُمَّ شَطَح [3] في الكلام وقال:
لَيْسَ في الوجود إلّا خالقان [4] : واحد في السّماء، وواحد في الأرض، فالّذي في السّماء هُوَ الله تَعَالَى، وَالَّذِي في الأرض أَنَا. ثُمَّ التفت إليّ وَقَالَ: هَذَا لا يحتمله العامّة لكونهم لا يَفهَمونه، أَنَا لا أقدِر عَلَى خلق شيءٍ إلّا خلق الكلام. فقلتُ: يا مولانا أَنَا مُحَدِّث، وإنْ لم يكن في المحدّث جراءة مات بغيظة [5] ، وأحبّ أن أسألك عن شيء. فتبسّم وقال: ما أراك تسأل إلّا عن معضلة، هاتِ. قلت: لِمَ سُمّيت بشُمَيْم؟ فشتمني وضَحِكَ، وقال: اعلم أنّني بقيت مدَّةً لا آكل إلّا الطّين، قصدا لتنشيق الرطوبة وحِدَّة الحفْظ، فكنت أبقى مدّة لا أتغوّط ثُمَّ يجيء كالبندقة من الطّين، فكنت آخذه وأقول لمن أنبسط إِلَيْهِ: شُمَّه فإنّه لا رائحةَ لَهُ، فَلُقِّبتُ بذلك، أرضيتَ يا ابن الفاعلة! تُوُفّي شُمَيْم بالمَوْصِلِ في ربيع الآخر [6] عَنْ سنٍّ عالية.