قَالَ أبو يَعْلَى التّميميّ في «تاريخه» [1] : كَانَ قد كَثُر فساد الفرنج المقيمين بعكّا، وصور، والسّواحل، بعد رحيلهم عَنْ حصار دمشق، وفساد شروط الهدنة الّتي بين أُنُرَ وبينهم. فشرعوا في العَبَث بالأعمال الدّمشقيَّة، فنهض معين الدّين أُنُر بالعسكر مُغيرًا عَلَى ضياعهم، وخيّم بحَوْران، وكاتَبَ العربَ، وشنّ الغارات عَلَى أطراف الفرنج، وأطلق أيدي التُّرْكمان في نهْب أعمال الفرنج، حتّى طلبوا تجديد الهدنة والمسامحة ببعض المقاطعة، وتردّدت الرُّسُل، ثمّ تقرَّرت الموادعة مدَّة سنتين، وتحالفوا عَلَى ذَلكَ.
ثمّ بعث أُنُر الأميرَ مجاهد الدّين بُزان بْن مامين في جيشٍ نجدة لنور الدّين عَلَى حرب صاحب أنطاكية، فكانت تِلْكَ الوقعة المشهودة الّتي انتصر فيها نور الدّين عَلَى الفرنج، وللَّه الحمد والمِنَّة. وكان جَمعه نحوا من ستَّة آلاف فارس سِوَى الأتباع، والفرنج في أربعمائة فارس، وألف راجل، فلم يَنْجُ منهم إلّا اليسير، وَقُتِلَ ملكهم البلنس [2] ، فحُمِل رأسه إلى نور الدّين. وكان هذا الكلب أحد الأبطال والفُرسان المشهورين بشدَّة البأس، عظيم الخلْقة والتّباهي في الشّرّ.
ثمّ نازل نور الدّين أنطاكية وحاصرها إلى أن ذَلّوا وسلّموها بالأمان. فرتَّب فيها مَن يحفظها، فجاءتها أمداد الفرنج، ثمّ اقتضت الحال مهادنَة من في أنطاكية وموادعتهم.