-ودخلت سنة ثلاثٍ وعشرين ومائتين

فيها تُوُفّي عبد الله بن صالح كاتب الَّليْث، وخالد بن خداش، ومحمد بن سنان العوقي، ومحمد بن كثير العَبْديّ، وموسى بن إسماعيل التبوذكي، ومعاذ بن أسد المروزي.

وفيها قَدِم الأفشين بغداد في ثالث صفر ببابَك الخُرَّميّ وأخيه. وكان المعتصم يبعث إلى الأفشين منذ فَصَلَ عن بَرْزَنْد كلّ يوم بفَرَسٍ وخِلْعة، كلّ ذلك من فَرَحه بأسْر بابك.

ومن عناية المعتصم بأمرِ بابك أنّه رتّب البريد من سامِرّاء إلى الأفشين بحيث أنّ الخبر يأتيه في أربعة أيّام من مسيرة شهر. فلما قدم ببابك أنزلوه بالمطيرة، فلمّا كان في جَوْف الليل أتى أحمد بن أبي دؤاد متنكرًا، فنظر إلى بابَك وشاهدَهُ، وَرَدّ إلى المعتصم فأخبره. فلم يَصْبر المعتصم حَتّى أتي متنكرًا، فتأمّلهُ وبابَك لا يعرفه.

وكان لعنه الله، ثَنَويًّا على دِين ماني، ومَزْدَكْ، يقول بتناسُخ الأرواح، ويَسْتَحِلّ البنت وأُمَّها. وقيل: كان وَلَدَ زِنا، وكانت أمّه عَوْراء تعرف برومية العِلْجَة. وكان عليّ بن مَزْدكان يزعمُ أنّه زنى بها، وأنّ بابَك منه.

وقيل: كانت فقيرة من قُرى آذْرَبَيْجان، فزنى بها نَبَطيّ، فحملت منه بابَك، ورُبّي بابَك أجيرًا في قريته، وكان راعيا، وكان بتلك الجبال قومٌ من الخُرَّميّة ولهم مُقَدَّمان: جاوِنْدان وعِمران. فتفرَّس جاوِنْدان في بابَك -[496]- الشجاعة، فأستأجره من أُمّهِ، فأحبّته امرأة جاوِندان، وأطلعتْه على أمور زوجها، ثمّ قُتِل جاوِنْدان في وقعة بينه وبين ابن عمٍّ لهُ، فزعمت امرأته أنّه استخلف بابَك، فصدّقها الْجُنْد وانقادوا له، فأمرهم أن يقتلوا بالّليل مَن وجدوا من رجلٍ أو صبيّ. فأصبح خلقٌ مُقَتَّلين. ثمّ انضم إليه طائفة من قُطّاع الطريق، وطائفة مِن الفلّاحين والشُّطّار. ثمّ استفحل أمره، وعظُم شرُّه، وصار معه عشرون ألف مقاتل. وأظهر لمذهب الباطنيّة، واستولى على حصون ومدائن، وقتل وسبى إلى أن أظفر الله به. فأركبه المعتصم فيلًا، وألبسه قِباءً من ديباج، وقَلَنْسُوَة سَمُّور مثل الشَّرْبُوش، وخَضَبوا الفيل بالحناء، وطافوا به.

ثمّ أمَر المعتصم بأربعته فقُطِّعَت، ثمّ قُطع رأسه وطِيف به بسامرّاء. وبعث بأخيه إلى بغداد، ففُعِل به نحو ذلك، واسمه عبد الله. ويُقال: إنّه كان أشجع من بابَك. فيقال: إنّه قال لأخيه بابَك قُدّام الخليفة: يا بابَك قد عملتَ ما لم يعملْه أحد، فأصبِرْ صبرًا لم يصبرْه أحد، فقال: سوف ترى صبري، فلمّا قُطِعت يدُه مسح بالدَّم وجهه، فقالوا: لِمَ فعلتَ هذا؟ قال: قولوا للخليفة: إنّك أمرتَ بقطع أربعتي وفي نفسك أنك لا تكويها وتدع دمي ينزف، فخشيت إذا خرج الدّم أن يصفرّ وجهي، فترون أنّ ذلك من جَزَع الموت. فغطّيت وجهي بالدم لهذا، فقال: فقال المعتصم: لولا أنّ أفعاله لا تُوجِب الصَّنيعة والعَفْوَ لكان حقيقًا بالاستبقاء، ثمّ ضُرِبت عُنُقه، وأُحْرِقت جُثّته، وفُعِل ذلك بأخيه، فما منهما مَن صاح، ويقال: إنّ بابَك قتل مائةً وخمسين ألفا، وما ذاك ببعيد.

ووجدتُ بخطّ رفيقنا ابن جماعة الكِنانيّ أنّه وجد بخطّ ابن الصّلاح رحمه الله، قال: اجتمع قومٌ مِن الأُدباء، فأحصَوا أنّ أبا مسلم قتل ألفي ألف، وأنّ قتلى بابَك بلغوا ألف ألف وخمسمائة ألف.

وفيها سار الأفشين بالجيوش، فالتقى طاغيةَ الروم، فاقتتلوا أيّامًا، وثبت كِلا الفريقين، وقُتِل خلقٌ منهما، ثمّ انهزم الطّاغية ونزل النّصْر. وكان هذا الكلب قد حَصرَ زِبَطْرة وافتتحها عَنْوةً، وقتل وسبى وحرق الجامع.

وفيها خرّب المعتصم أَنْقِرة وغيرها، وأنكى في بلاد الروم وأوطأهم خوفا وذلا، وافتتح عمورية بالسيف كما هو مذكور في ترجمته. وكانت نكايته في الروم مما لم يُسْمع لخليفةٍ بمثله، فإنه شتّت جُموعهم، وخرّب ديارهم؛ وكان -[497]- ملكهم تُوفيل بن ميخائيل بن جرجس قد نزل على زِبَطْرة في مائة ألف، ثمّ أغار على مَلْطِية، وعَمّ بلاؤه وفي ذلك يقول إبراهيم بن المهدي:

يا غيرة الله قد عاينت فانتقمي ... هَتَك النّساء وما منهنّ يرتكبُ

هَبِ الرجالَ على أجرامها قُتِلَتْ ... ما بالُ أطفالها بالذَّبْح تُنْتَهَبُ؟

فلمّا سمِع المعتصم هذا الشِّعْر خرج لوقته إلى الجهاد، وجرى ما جرى، وكان على مقدّمته أشناس التُّرْكيّ، وعلى مَيْمنته إيْتاخ التُّركيّ، وعلى المَيْسَرة جعفر بن دينار، وعلى الساقة بغا الكبير وعلى القلب عُجَيْف ودخل من الدُّروب الشّاميّة، وكان في مائتي ألف على أقلّ ما قيل، والمكثر يقول: كان في خمسمائة ألف.

ولما افتتح عَمُّورية صمّم على غزو القُسْطنطينيّة، فأتاه ما أزعجه من أمر العبّاس ابن المأمون، وأنّه قد بُويع، وكاتبَ طاغية الروم، فَقَفَلَ المعتصم، وقبض على العبّاس ومُتَّبعيه وسجنهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015