لهم خيرًا منك استعملتُه عليهم. وكان عمره إذ ذاك نَيِّفًا وعشرين سنة، وكان رجلًا صالحًا. رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أصبتُ فِي عملي هذا بُرْدَيْن مُعَقَّدَيْن كَسَوْتُهما غُلامِي، فلا يقولنّ أَحَدُكُمْ أخَذ مِنّي عتّاب كذا، فقد رزقني رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلَّ يومٍ دِرْهَميْن، فلا أَشْبَعَ اللَّه بَطْنًا لَا يُشبعه كلَّ يومٍ درهمان.
وحجّ النّاس تِلْكَ السنة عَلَى ما كانت العرب تحجّ عليه، والله أعلم.
ولما قدِم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُنْصَرفه، كتب بُجَيْر بْن زُهَيْر؛ يعني إلى أخيه كَعْب بْن زُهَيْر، يخبره أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل رجالًا بمكة ممّن كَانَ يَهْجُوه ويُؤذيه، وأنّ من بَقِيَ من شعراء قريش؛ ابن الزِّبَعْرَى، وهُبَيْرة بْن أبي وهب، قد ذهبوا فِي كلّ وَجْهٍ. فإن كانت لك فِي نفسك حاجة فطِرْ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه لَا يقتل أحدًا جاءه تائبًا، وإنْ أنت لم تفعلْ فانجُ إلى نَجَائِك من الأرض.
وكان كَعْب قد قَالَ:
أَلا أَبْلِغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَكَ فِيمَا قُلْت وَيْحَكَ هَلْ لَكَا
فَبَيِّنْ لَنَا إِنْ كُنْتَ لَسْتَ بِفاعِلٍ ... عَلَى أَيِّ شَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ دَلَّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ ألْفِ يوما أبا له ... عَلَيْهِ وَمَا تُلْفي عَلَيْهِ أَخًا لَكا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بآسِفٍ ... وَلا قَائِلٍ إِمَّا عَثَرْتَ لَعًا لَكا
سَقَاكَ بِهَا المَأْمُونُ كأسا روية ... فأنهلك المأمون منها وعلكا
فلما أتت بُجَيْرًا كَرِه أنَّ يَكْتُمَها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنشده إيّاها. فقال لما سَمِعَ " سقاك بها المأمون ": " صَدَق وإنّه لكّذُوب ". ولما سَمِعَ: " عَلَى خُلُقٍ لم تلف أُمًّا ولا أبًا عَلَيْهِ ". قَالَ: " أجل لم يلف عَلَيْهِ أَبَاهُ ولا أمّه ".