فِي أول السَّنَة خرج السّلطان بالجيوش من مصر للقاء العدو.
وفي صَفَر درّس بالظاهريَّة القاضي شمس الدِّين سلمان المَلَطي نائب الحُكم وليها بعد موت شهاب الدين ابن النحاس وولي الريحانية جلال الدين ابن القاضي. -[703]-
وفي ثامن ربيع الأوّل دخل السّلطان الملك النَّاصر دمشقَ وزُيّن البلد. وكان قد طوّل الإقامة على غزّة. وقَدِم دمشقَ جُفّال حلب وحماة وتلك النّواحي وقاسوا البرد والوحْل. واشتدّ الأمر وقوى الزَّرّ وأقام السّلطان فِي القلعة تسعة أيام وخرج للملتقى وعَدَّت التّتار الفُرات مع الملك قازان فِي ستّين ألفًا وأكثر ما قيل إنّهم مائة ألف ولم يصحّ. وكثُر الدعاء وقَنَتَ النّاس في الصلوات وعملت الختم بالجامع واجتمعت جيش الإسلام على حمص وحضر النّاس لقراءة " الْبُخَارِيّ " بدمشق. وأخذ شيخ دار الحديث الأثر وحمله على رأسه إلى الجامع ومعه القضاة ووضعوه تحت النَّسْر وحفّوا به يْدعُون ويبتهلون يوم الرابع والعشرين من ربيع الأوّل. وأخذ فقهاء المكاتب الصّغارَ وداروا بهم فِي المساجد يدعون ويستغيثون ربّهم تبارك وتعالى. وفعلت اليهود والنّصارى ذَلِكَ وحملوا توراتهم وإنجيلهم.
وأمّا الجيش فإنّهم تعبّوا للمصافّ وبقوا ملبّسين على الخيل يوم الثلاثاء، فلم يجيئهم أحد وبلغهم أنّ التّتار بقُرب سَلمَية وأنّهم يريدون الرجوع وذلك شناعة ومكيدة، فركب السّلطان بكرة الأربعاء وساقوا من حمص إلى وادي الخَزْنَدَار وقد حميت الشمس، فكانت الوقعة فِي يوم الأربعاء، الخامسة من النّهار، السابع والعشرين من الشهر بوادي الخَزْنَدَار، شمال حمص بشرق، على نحو فرسخين من حمص أو ثلاثة. والتحم الحرب ودام الطعن والضرب واستحر بالتّتار القَتْل ولاحت أمارات النصّر وثبت المسلمون إلى بعد العصر وثبت السّلطان والخاصكيّة ثباتًا كُلّيًا. وانكسرت ميمنة المسلمين وجاءهم ما لا قِبَل لهم به لأنّ الجيش لم يتكامل يومئذ وكانوا بضعةً وعشرين ألفًا وكان العدوّ ثلاثة أمثالهم وشرعوا فِي الهزيمة وقُضي الأمر. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. وأخذت الأمراء السّلطان ووَلّوا وتحيَّزوا وحموا ظهورهم ومرّوا على حمص وساروا على درب بَعْلَبَكَّ إلى طريق البقاع ومرّ خلْق من الجيش منكسرين عليهم كَسْفة وكآبة بدمشق.
وأمّا نَحْنُ فوقعت يوم الخميس الظهر بطاقة مضمونها أنّ أقجبا المشدّ -[704]-
وجماعة مجرّحين وصلوا إلى قارة وأن أمر المصافّ متماسك بعد ولم يدروا ما تم بعدهم، فأخفى أرجواش نائب القلعة ذَلِكَ، فما أمسينا حَتَّى أُشهر أنّ الميمنة انكسرت. ثُمَّ قيل إنَّ الجيش جميعه انكسر، فبِتْنا بليلةٍ اللَّهُ بها عليم وفترت الهمم عن الدّعاء. ودقّت البشائر من الغد تطمينًا ثم تبين كذبُها. ثُمَّ أرسل أرجَواش الأنهار على خندق البلد. ثُمَّ دقّت البشائر عصر يوم الجمعة، فلم يعبأ بها النّاس، بل بقوا حائرين فِي هَرَج ومرج. وجاء يومئذٍ خلْقٌ من الجند والأمراء، قد وقفت خيولهم وراحت أثقالهم وأمولهم وتمزقوا وقد رموا الجواشن. واستشهد فِي المَصَافّ جماعة إلى رحمة اللَّه. وشرع النّاس فِي الهرب إلى مصر. وبات الناس ليلة السبت في أمر عظيم، قد أشرفوا على خطّة صعبة وبَلَغَنا أنّ التّتار قُتِل منهم خمسة آلاف وقيل عشرة آلاف. ولم يُقتَل من الجيش إلا دون المائتين.
حدّثني ضوء بْن صبّاح الزَّبِيديّ قال: ما رَأَيْت أنفع من الخاصكيّة لقد رأيتهم على باب حمص يحملون على التَّتَار عند اصفرار الشمس ويُنْكُون فِي التَّتَار، ثُمَّ يرجعون إلى السّلطان.
وقال غيره: ألقى اللَّه الهزيمة فولّوا مُدبرين بعد العصر وبقيت العُدَد والأمتعة مُلقاةً قد ملأت تلك الأرض والرماح والجواشن والخُوَذ.
وأما نَحْنُ، فشرع النّاس يتحدّثون فِي أمر التَّتَار ويذكرون عَنْهُمْ خيرًا وأنّ ملكهم مُسْلِم وأن جيشه لم يتبعوا المنهزمين. وبعد تمام الوقعة لم يقتلوا أحدًا. وأنّ من وجدوه أخذوا فَرَسَه وسلاحه وأطلقوه. وكثُرت الحكايات من هذا النَّمط، حَتَّى قال إنسان كبير: اسكت، هَؤُلَاءِ خير من عسكرنا وانخدع النّاس.
وفي يوم السبت الظّهر وقع بالبلد صرخات وصياح مزعج وخرج النّاس وتهتّكت النّساء وقيل: دخل التَّتَار. وازدحم النّاس فِي باب الفرج، حتى مات نحو العشرة، منهم النجم البغداديّ الَّذِي يقرأ الغزوات تحت قبّة عَائِشَة. ثُمَّ سكنت بعد لحظةٍ من غير أصل. فاجتمع أعيان البلد وتحدّثوا فِي المصلحة. وهم فخر الدين ابن الشيرجي ناظر البلد وعز الدين ابن القلانسي ووجيه الدين ابن المنجى وعز الدين ابن الزكي والشريف زين الدين ابن -[705]-
عدنان، وسافر مع الجمال ليلتئذٍ قاضي البلد إمام الدِّين والقاضي المالكيّ والمحتسب وابن النّحّاس الوالي، وامتلأت الطرقات بأهل الغوطة والحواضر، وأحرق أهل حبْس باب الصغير الحبس , وخرجوا كلّهم، وكانوا أكثر من مائتين، وكسروا أقفال باب الجابية وخرجوا منه.
وأصبح النّاس يوم الأحد ثاني ربيع الآخر فِي خَمْدةٍ وحَيْرة، منهم الهارب بأولاده إلى مصر، ومنهم الطّامع فِي عدل التَّتَار، وأنّهم مشى بهم الحال نَوْبةَ هولاكو، وهم وملكهم كُفّار، فكيف وقد أسلموا.
ثُمَّ اجتمع الكبار بمشهد عليّ، واشتوروا فِي الخروج إلى الملك وطلب الأمان، فحضر ابن جماعة والفارقيّ، وابن تيمية، والوجيه ابن منجى، والقاضي نجم الدين ابن صصرى، وعز الدين ابن القلانسي، والصاحب ابن الشيرجي، وشرف الدين ابن القلانسي، وأمين الدين ابن شقير، وعز الدين ابن الزكي، ونجم الدين ابن أبي الطيب، وشهاب الدِّين الحَنَفِيّ، وغيرهم.
وطلعوا ظُهر يوم الإثنين بهدايا للأكل فِي نحو مائتي نفْس، ونودي فِي البلد من جهة أرجَواش: لا يباع من عُدَد الْجُنْد شيء، فسلطانكم باق، وأبيعت الخيل والعُدَد بأقلّ ثمن، وبقي البلد بلا والٍ ولا قاضٍ، أمّا قاضيه الشّافعيّ فهرب هُوَ والمالكي، وأمّا الحَنَفِيّ فشهد المصافّ وعُدِم، وأمّا الحنبليّ فإنّه أقام بأهل الصّالحيّة ورجوا الخير، وأمّا محتسب البلد ومشدّه فهربا، وغلا الخبز، وكثُر الشّرّ والهَرَج، وبقينا كذلك إلى آخر يوم الخميس، وغلا سعر الطحين وسعر الخبز لعدم الطواحين، وعدم الخطب، وقلَته فِي الأفرنة.
وقد كان الشريف القميّ بادر إلى المسير إلى التَّتَار، فرجع يوم الخميس ومعه أربعة من التَّتَار، على واحدٍ منهم ثياب المسلمين وكَلْوَتَه شاش دُخانيّ، ومرّوا بالمطرزيين يجهرون بالشهادتين، والنّاس يتسّلون بإسلامهم ويطمئنّون شيئًا، فَلَمّا أصبح نهار الجمعة لم يُفتَح للبلد باب، ثُمَّ كُسِر قِفْل باب توما، كسره نائب الوالي الشجاع همام وابن ظاعن، ولم يُذكر فِي الخطبة سلطان، ثُمَّ بعد الصّلاة وصل إلى ظاهر المدينة جماعة من التَّتَار معهم الملك إِسْمَاعِيل قَرَابَةُ قازان، فنزلوا ببستان الظّاهر الَّذِي عند الطُرن، وحضر معه الفَرَمان من الملك بالأمان، ونادوا فِي البلد: افتحوا حوانيتكم، وطيبوا قلوبكم، وادْعُوا للملك محمود غازان، وقدِم كبراء البلد، فذكروا أنّهم التقوا قازان بالنِّبَك فوقف -[706]-
لهم وأكل ممّا قدّموا له، وكان المتكلّم الصاحب ابن الشَّيْرجيّ والذي دعا للملك الخطيب ابن جماعة، وقالوا لهم: قد بعثنا لكم الأمان قبل أنّ تجيئوا.
وذكروا أنّ الملك ينزل بالمرج، وأنّه لا يفتح إلا باب واحد.
وحضر يوم السبت إِسْمَاعِيل ومعه الأمير مُحَمَّد فِي خدمتهما طائفة من التَّتَار إلى مقصورة الخطابة بعد الظُّهر فجلسا بها، وحضر الخطيب وابن القلانسي، وابن الشيرجي، وابن منجى، وابن صَصْرَى، وطائفة، واجتمع الخلْق لسماع الفَرَمان، قرأه رَجُل من أعوان التَّتَار، وبلّغ عَنْهُ المجاهد المؤذن، وهو: "بقوة اللَّه تعالى، ليعلَمْ أمراء التُّومان والألف والمائة وعموم عساكرنا من المغول والتازيك والأرمن والكُرْج وغيرهم ممّن هُوَ داخل تحت طاعتنا، إنَّ اللَّه لمّا نوّر قلوبنا بنور الإسلام وهدانا إلى ملة النبي عليه السلام {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذكر الله أولئك في ضلال مبين}، ولمّا سمعنا أنّ حكّام مصر والشام خارجون عن طرائق الدِّين، غير متمسّكين بأحكام الإسلام، ناقضون لعهودهم، حالفون بالأيمان الفاجرة، ليس لديهم وفاء ولا ذمام ولا لأمورهم التئام ولا انتظام، وكان أحدهم إذا تولّى {سَعَى فِي الأرض} الآية، وشاع أنّ شعارهم الحَيْف على الرعيّة، ومدّ الأيدي الباغية إلى حريمهم وأموالهم، والتّخطي عن جادّة العدل والإنصاف، وارتكابهم الجور والاعتساف، حَمَلَتْنا الحميَّة الدّينيَّة والحفيظة الإسلاميّة على أنّ توجّهنا إلى تلك البلاد لإزالة هذا العدوان، مستصحبين للجمّ الغفير من العساكر، ونذرنا على أنفسنا: إنْ وفَّقنا اللَّهُ تعالى بحَوْله وقوّته لفتْح تلك البلاد أنْ نُزيل العدوان والفساد، ونبسط العدل فِي العباد، ممتثلين الأمر المطاع الإلهي {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} الآية، وإجابة إلى ما ندب إليه الرَّسُول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم، وما وَلَّوْا "، وحيث كانت طَويتُنا مشتملة على هذه المقاصد الحميدة، والنُّذور الأكيدة، مَنّ اللَّه علينا بتبلج تباشير النصر المبين، وأتم علينا نعمته -[707]-
وأنزل علينا سكينته، فقهرنا العدوّ الطاغية والجيوش الباغية، فرَّقْناهم أيدي سبأ، ومّزقناهم كلَّ مُمزّق، حَتَّى جاء الحقّ وزهق الباطل، فازدادت صدورنا انشراحًا للإسلام وقويت نفوسنا بحقيقة الأحكام، منخرطين فِي زُمرة من حُبّب اليهم الإِيمَان، فَوَجَب علينا رعاية تلك العهود الموثقَّة، والنُّذور المؤكَّدة، فصدرت مراسمنا العالية أنّ لا يتعرض أحدٌ من العساكر المذكورة على اختلاف طبقاتها بدمشق وأعمالها وسائر البلاد الشاميّة، وأن يكفّوا أظفار التّعدّي عن أنفسهم وأموالهم وحريمهم وأطفالهم، ولا يحوموا حول حِماهم بوجهٍ من الوجوه، حَتَّى يشتغلوا بصدورٍ مشروحة وآمال مفسوحة، بعمارة البلاد وبما هُوَ كلّ واحد بصدده من تجارة وزراعة، وكان في هذا الهرج العظيم وكثرة العساكر تعرِّض بعضُ نفرٍ يسيرٍ إلى بعض الرعايا وأسْرهم، فقتلنا منهم ليعتبر الباقون، ويقطعوا أطماعهم عن النَّهْب والأسْر، وليعلموا أنّا لا نسامح بعد هذا الأمر البليغ البتّة، وأن لا يتعرّضوا لأحدٍ من أهل الأديان من اليهود والنّصارى والصّابئة، فإنّهم إنّما يبذلون الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا، لأنّهم من جملة الرعايا، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " الإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عَنْهُمْ "، فسبيل القضاة والخطباء والمشايخ والعلماء والشُرفاء والأكابر وعامّة الرعايا الاستبشار بهذا النّصر الهنيّ والفتح السّنيّ، وأخذ الحظّ الوافر من الفَرَح والسّرور، مقبلين على الدّعاء لهذه الدّولة القاهرة والمملكة الظاهرة، وكُتِب فِي خامس ربيع الآخر".
فَلَمّا فُرغ من قراءته نُثِر عليه ذَهَب وفضّة بالمقصورة، ونثر الشريف زين الدِّين نحو عشرة دنانير، وكان واقفًا مع المغول على السدة، وضجّت العامّة، ودعوا للملك، وسكن جأشهم بعضَ الشيء، وجعل نائب البلد الملك إِسْمَاعِيل وجلس بالقَيْمُريَّة، وكان فِيه عقل وإسلام وقلّة شرّ فِي الجملة، ثُمَّ طلبوا يوم الأحد المال والخيل من العامة.
وفي عاشر ربيع الآخر قَرُب الجيش من الغوطة، ووقع العبث والفساد وقتلوا جماعة من أهل البرّ، ونهبوا بقايا من فِي الضّياع، وقد قبجق وبكتمر -[708]-
فِي طائفة فنزلوا بالميدان، وتكلّموا مع متولّي القلعة عَلَم الدِّين أرجَواش المَنْصُورِيّ وراسلوه فِي تسليم القلعة وأشاروا عليه بذلك، فلم يقبل وصمَّم، وكانت خِيرة، ثُمَّ أمروا أعيان البلد بالمشي إليه من الغد، فاجتمعوا به وسألوه وقالوا: هذا فِيهِ حقْنٌ لدماء المسلمين، فلم يلتفت عليهم وقد حصّن القلعة وهيّأ جميع أمورها وسترها وطلع إليها جماعة كبيرة من البلد.
ويوم الثاني عَشْر منه، دخل السّلطان وجمهرة جيشه إلى القاهرة.
وفي هذا اليوم دخل قبجق إلى البلد وجلس بالعزيزيّة، وأمر الأعيان بمراجعة أُرْجَواش، فكلّموه فلم يُجبهم وأهانهم، ووقفوا كلّهم عند باب القلعة وطلبوا منه رسولًا فأبى، فبعثوا مَن كلّمه، فأغلظ لهم وقال: أنتم منافقون، تلقّيتم التَّتَار وسلّمتم إليهم البلد وجسّرتموهم، ومع هذا فهذه بطاقة صاحب مصر وأنّهم اجتمعوا على غزة، وأنهم كسروا الطائفة التي تبعتهم.
وكان المقدَّم بولاي قد ساق وراء العساكر في نحو عشرة آلاف، فوصل إلى غزّة وخرب البلاد وسبى ونهب.
ويوم الخميس ثالث عشر الشهر تحدّث الناس بصلاة قازان الجمعة فِي البلد، فقلق النّاس ودربّوا الدروب وردموا خَلَف أبوابها الطين والحجارة.
وكثُر دخول التَّتَار إلى بيوت النّاس يفتّشون على الخيل ويأخذونها ويخطفون ويُؤذون، وبات ليلتئذٍ قبجق عند عز الدين ابن القلانسيّ، وخطب الخطيب يوم الجمعة بالبلد، وأقام الدّعوة للسّلطان مظفّر الدِّين محمود غازان ورفع فِي لَقَبه، وذلك بحضرة جماعةٍ من المغول، ثُمَّ صعد بعد الصّلاة قبجق وإسماعيل إلى السُّدّة ودعا عَبْد الغني المؤذّن وذكر ألقاب قازان، ثُمَّ قُرئ على النّاس تولية قبجق لنيابة الشام وأنّ إليه تولية قُضاتها ونوّابها، وبلّغ النّاس عَبْد الغنيّ، ونثروا على النّاس الذَّهَّب والدّراهم، وحصل فرح ما بتولية قبجق، وتعب قبجق بالتّتار كلّ التّعب، ولكنّه كان شاطرًا ذا دهاء ورأي وخبرة، قد عرف سياستهم، ونزل شيخ الشيوخ الَّذِي لقازان ولَقَبُه نظام الدِّين محمود بْن عليّ الشَّيْبَانيّ بالمدرسة العادليّة، وأظهر العتب على الرؤساء إذ لم يتردّدوا إليه، وزعم أنّه يصلح أمرهم ويتّفق معهم على ما يُفعل فِي أمر القلعة، وأظهر أنّ قبجق وأمثاله من تحت أوامره. -[709]-
وأما أهل الصالحية فابتلشوا ونشبوا بالقعود، وجاءهم مقدّم، وقعد شِحنةً لهم، فأكلهم واستحلبهم، وزوّجه القاضي بصبيّةٍ ولم يكن عنده دفع عنهم.
وشرعت التَّتَار فِي نهب الصّالحيّة والعبث والفساد وبقوا كلّ يوم يقوى شَرّهم، ويكثُر عَبَثهم، وأخذوا منها شيئًا كثيرًا من القموح والغلال والقماش والذخائر، وقلعوا الشبابيك وكسروا وأخربوا وأخذَوا بُسُطَ الجامع، والتجأ النّاس إلى دير المقادسة، فانحشروا فِيهِ، فاحتاط بْه التَّتَار فِي ثامن عَشْر الشهر ودخلوه ونهبوا فِيهِ وسبوا الحريم والأطفال، فخرج اليهم شيخ المشايخ النّظام فِي جماعةٍ من التَّتَار فأدركوهم وردّوا عن الدّير بعض الشَّيء، وهرب التَّتَار بما حوَوا وتوجّهت فرقة إلى داريّا، فاحتمى أهلها بالجامع، فحاصروه وأخذوه ودخلوه ونهبوا وقتلوا وعثّروا أهل داريّا.
ولم يزالوا يتدرّجون فِي نهب الخيل وسبْي أهله قليلًا قليلًا، فرقة تذهب وفرقة تأتي، ونبشوا أطمار القماش والأثاث وعاقبوا وعذّبوا، وكان خاتمة أمرهم الدّير فاستباحوه، ولم يتركوا به إلا العجائز فِي البرد والجوع والعُري، ودخل الرجال عُراة حُفاة، عليهم خلْقان كأنّهم الصّعاليك، بل أضعف من الصّعاليك لمّا هُمْ فِيهِ من آلام العقوبات والجوع وشدّة البرد والسَّهَر وذهاب الأولاد والحريم، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
وسارت فرقة إلى المزّة وكان بها أكثر أهلها قد اغترّوا وقعدوا فأوطؤوهم خوفًا ونهبًا وتبارًا.
وكان الشيخ تقي الدين ابن تيميّة تلك الأيّام يتردّد إلى من يرجو نفعه إلى شيخ المشايخ والى العَلَم سُلَيْمَان وإلى قبجق. ثُمَّ إنّه خرج مع جماعة يوم العشرين من الشهر إلى قازان وهو بتل راهط، فأُدخل عليه ولم يمكَّن من إعلام قازان بما يقع من التَّتَار، وخافوا أنّ يغضب ويقتل أناسًا من المغل، وأُذِن له فِي الدّعاء والإسراع، وأشار عليه الوزير سَعْد الدِّين ورشيد الدِّين اليهوديّ مشير الدّولة بأن لا يشكو التَّتَار ونحن نتولّى إصلاح الأمر ولكن لا بُد من إرضاء المُغْل، فإنّ منهم جماعة كبيرة لم يحصل لهم شيء إلى الآن.
وعاد الشَّيْخ إلى المدينة، ثُمَّ من الغد في اليوم الثاني والعشرين اشتهر أنه لا بد من دخول المُغْل إلى البلد والنَّهْب وظهر ذَلِكَ، وجهّز شيخ المشايخ -[710]-
ثقله من العادليّة وخرج إلى الأُرْدُو وأشار على من يعرِف بالخروج من البلد، فأسرع إليه الأعيان وبذلوا فِي فداء البلد الأموال، والتمسوا منه أنّ يتوسّط لهم، وكان شيخًا خبيثًا طمّاعًا وربّما فعل ذَلِكَ خديعة وقيل: بل ليّن قازان للمغول، ثُمَّ خرج منه مرسوم فِي جوف اللّيل بأنّ: من عاودني فِي أمر دمشق يموت.
وأمّا النّاس فباتوا فِي ليلةٍ مزعجة، وأصبحوا فِي بلاءٍ شديد وترد مُفْرط، وانضمّ جماعة إلى شيخ المشايخ يرومون الاحتماء به، وهو فِي ذَلِكَ مصمّم لا يفرج عنهم كربة ولا يرق لمسلم.
ثُمَّ لَطَفَ اللَّه وبَطَلَ ذَلِكَ، ولكن أُضعِف المقرَّر على النّاس وجُبيت الأموال وناب الناسَ في الترسيم أموال كثيرة، فكان إذا وضع على الإِنْسَان عشرة آلاف ينوبه ترسيم نحو الألفين، وأخذ هذه الأيّام من البلد أكثر من عشرة آلاف فرس وسائر الحمير ووقع الضَّرْب والتّعليق والعصر، وقُرِّر على سوق الخوّاصين مائة ألف درهم وعلى الرمّاحين مائة ألف وعلى أهل سوق عليّ ستّون ألفًا، وعلى الكبار مثل ابن المنجى وابن القلانسي سبعون ألفًا سبعون ألفًا ويلحقها تتمّة المائة ألف، والطبقة الثانية ثلاثون ألفًا ونحو ذلك، وألزموا المبيت بالجامع بالمشهد الجديد، وأُخرِق بالكبار وضُرِب جماعة من الأماثل وكثُر النَّهب وتشليح من يتطّرف، واشتدّ ذَلِكَ يوم الجمعة ثامن وعشرين الشهر، وكثُرت الضّجّة بأعالي الدُّور وهرب النّاس من أسطحتهم، وحمل الشيخ شمس الدين ابن غانم إلى الجامع مريضًا وطُلب منه مائة ألف، وصودر الفاميّة والقصّابون، وكان مشدّ المصادرة علاء الدِّين أستاذ دار قبجق والذي يقرر على النّاس الصَّفيّ السِّنْجاريّ، قَدِمَ مع التَّتَار والحِنّ والبن أولاد الحريري، وكثرت العوانية وظهرت النفوس الخبيثة بالأذية والمرافعة ونُهب أهراء الأمراء ودُورهم.
وذكر الشَّيْخ وجيه الدين ابن المنجى أنّ الَّذِي حُمِل إلى خزانة قازان ثلاثة آلاف ألف وستّمائة ألف درهم سوى ما تمحق من الترسيم والبرطيل وسوى ما استخرج لغيره من الكبار، بحيث أنه اتّصل إلى شيخ الشيوخ ما يقارب ستّمائة ألف درهم. -[711]-
قلت: واشتدّ البلاء وهلك ناس كثير فِي هذه المصادرة وافتقروا وإلى اليوم، وبعضهم ركبه الدين، وجبي من بعض الناس على الرؤوس والدُّور، ثُمَّ يوم التّاسع والعشرين نوديَ فِي البلد بإطلاق الطلب وانصرفت الأعيان إلى بيوتهم.
وفي سلخ الشهر كان قبجق قد سكن بدار السّعادة، ويذهب إليها من خان الغرباء، فرموا عليه بالمنجنيق وبالنار من القلعة، فوقع فيها الحريق وابتُدئ يومئذٍ بحصار قلعة دمشق من داخل البلد وخارجه، ودخل المُغْل للحصار، وملأوا باب البريد إلى الظاهريّة إلى ناحية الخاتونيّة وحارة البلاطة، وباتوا هناك، وعُملت هذه الأيام المجانيق للتّتار بجامع دمشق وقُطِّعت لها الأخشاب النّفيسة من الغيظة، وأحضرت الأعواد الكبار إلى الجامع وبات التُّرك لِحفظها، وكُسِرت دكاكين باب البريد ونُهبت وتحوّل فِي اللّيل جميع أهل تلك النّواحي من الأسطحة وذهبت أموالهم وأقواتهم وتعثّروا وقاسوا الشّدائد ولم يبق بذاك الخطّ دَيّار من أهله، ونُهبت دار للسُكَّر يومئذٍ وأبادتها الحرافشة.
وأمّا الجيوش فدخلت القاهرة وأنفق فيهم السّلطان وشرعوا فِي شراء الخيل والعُدَد، وغَلَت هذه الأشياء حَتَّى أُبيع الْجَوْشن الَّذِي بعشرة بمائة درهم ونحو ذَلِكَ، وكانت نفقة عظيمة لم يُعهد مثلها ولا سيّما فِي الشاميّين، ولعلّها تجاوزت ألف ألف دينار، وأُزيحت عِلَل الجيش بكلّ ممكن، واحتفل سلار لذلك واجتهد بكلّ ممكن هو وكبار الأمراء، وبعثوا قصّادًا يكشفون لهم خبر الشَّام وبذلوا لهم ذهبًا كثيرًا، ولزِم النّاس بيوتهم، وخافوا من إلزام التَّتَار لهم بطمّ خندق القلعة وغير ذلك.
وفي ثاني جمادي الأولى كان قد تبقّى بدير المقادسة بعض الشَّيء وبعض الحريم والرجال والقاضي الحنبلي، فجاءته فرقة من التتار وحرروه نهبًا وسبيًا وأسروا القاضي وأخذوه عريان مكشوف الرأس، وعملوا فِي رقبته حبلًا، ثُمَّ هرب أهل الدَّير ودخلوا البلد مَضْرُوبينَ مَسْلوبين، مَنْ يراهم يَبكي أكثر من بُكائهم، ثُمَّ أدخل القاضي تقيّ الدِّين البلد وقد أُسِرَتْ بَنَاته وخلقٌ من أقاربه، -[712]-
ورأى الأهوال، ولعلّ اللَّه قد رحمه بذلك.
ولمّا رَأَى القلعيّون حِصار التَّتَار لهم أطلقوا النار فِي دار الحديث الأشرفيّة وما جاورها والعادليّة ودار المَلِك الكامل ودار بكتوت العلائيّ وغالب ما حول القلعة، وسلِمت الدّماغيّة والعماديّة والقَيْمازيّة، وبقي الجامع ملآن بالغرباء والمساكين والفلاحين كأنه تحت القلعة.
وقيل إنه أسر من الصالحية نحو الأربعة آلاف ومن باقي الضّياع والقدس إلى نابلس إلى البقاع شيء كثير لا يعلمه إلا الله.
وقيل إنه قتل بالصالحية نحو الأربعمائة، وقُلِع شيء لا يوصف ولا يُحدّ من الأبواب والرُخام والشبابيك وغير ذَلِكَ، من سائر الأمكنة البرّانيّة ومن الأمكنة الجوّانيّة التي حول القلعة وأبيع بالهوان، وبقي سائر أهل البلد في ثياب ضعيفة وعلى رؤوسهم تخافيف عتيقة خوفًا من التّشليح، وتراجع أمر المصادرة والعقوبة إلى حاله، وطُلِب من المدارس مبلغ كبير، نحو المائة ألف وانعسفت النُّظّار والعمال وغلت الأسعار.
وفي هذه الْجُمُعَة قرئ بالجامع فَرَمَانٌ فِيهِ صيانة الجامع وحِفْظ أوقافه، وأن يُصرف فِي السبيل والحج ما كان يؤخذ لخزائن السلاح، وأن تضرب الدراهم فضة خالصة.
وفي ثاني عَشْر جُمَادَى الأولى رحل قازان عن الغوطة طالبًا بلاده، وتخلّف بالقصر نائبه خطلوشاه في فرقة من الجيش.
وفي ثالث عَشْر جُمَادَى الأولى أُمِر أهل العادليّة بالخروج منها لأجل حصار القلعة، فخرجوا بمشقّة وشدّة، وتركوا معظم حوائجهم وأقواتهم فنُهِبت.
وفي ثامن عَشْر جُمَادَى الأولى دخل البلد خلق من المُغل، وحاصروا القلعة ونقبوا عليها من غربيّها، وبقي أهل الظّاهريّة وهي ملأى بالنّاس، فِي ضُرٍّ وخوفٍ من يَزَك التَّتَار، وهلكوا من انقطاع الماء وخافوا لا تفعل بهم التَّتَار كَمَا فعلت بالعادليّة وأخرجت أهلها، فهربوا من الأسطحة بمشقّة زائدة، وأحرقت التَّتَار والكرج والأرمن جامع العقيبة ومارستان الجبل والدَّهْشَة والمدرسة الصّاحبيّة والرباط النّاصريّ وأماكن فِي غاية الكَثْرة والحسن. -[713]-
وأحرقت العادليّة فِي ليلة الحادي والعشرين من جُمَادَى الأولى، فهرب من تبقّى بالظاهريّة عند ذلك.
ويوم الجمعة تاسع عَشْر الشهر قُرئ تقليد قبجق بالنيابة وتقليد الأمير ناصر الدِّين يحيى بْن جلال الدين ابن صاحب ختن بالشد وفيه: " إننا نرجع إلى بلادنا، وقد تركنا بالشام ستّين ألفًا من جيشنا وإنّا سنعود في الخريف لأخذ الديار المصرية ".
وفي الثاني والعشرين منه، بَطّل التَّتَار حصار القلعة، ومشى النّاس فِي تلك النواحي، وقد بقيت بلاقع من الحريق والخراب وذهاب الأبواب والأخشاب.
وفي الثالث والعشرين بطَلَ عملُ المنجنيق، فنزل من الغد القَلَعيّة ونشروا الأخشاب وأفسدوها وظفروا بالشريف القمي فأسروه وأخذوه إلى القلعة.
ورحل عن البلد النُّوين خُطْلُوشاه وصاحب سيس، وخفّ التَّتَار من البلد جدًّا، وقُلعت ستائرهم من أماكنها وتنسم الناس الخير وعبرنا فِي باب البريد فإذا هُوَ أنحس من خان فِي منزلةٍ، دكاكينُه بوائك وأرضه مرصوصة بالزِّبْل سُمْكُ ذراعٍ وأقلّ، ووصلنا إلى باب النصر، ودُقّت البشائر يومئذٍ بالقلعة وجُليت لسلامتها ولله الحمد.
وخرج يومئذٍ من البلد الصّفيّ السّنْجاريّ والأمير يحيى ونودي فِي البلد: أخرجوا غدًا للقاء سُلطانكم قبجق، فقد دفع اللَّه عنكم العدوّ.
ورجع الأمير سيف الدِّين قبجق وبَكْتَمُر السِّلَحدار وأَلْبَكي وجماعة من الْجُنْد تلّفقوا له من البلد وظهروا، وأُخذت له عصائب من تُربة الملك الظاهر رَنْك الملك السّعيد قد زالت عَنْهَا السّعادة، فعملت فِي رُمح على رأسه وسُلِّلَتْ بين يديه سيوفٌ ونزل فِي القصر، وخرج النّاس إلى الغوطة والجبل ينوحون على مساكنهم من وجهٍ ويفرحون بسلامتهم من وجه.
وحكى لنا ابن تيميّة طُلوعَه إلى خُطْلُوشاه إلى القصر هُوَ والقاضي تقي الدِّين الحنبليّ وغيره، وباتوا بالمنيبع وخاطروا بنفوسهم، وحضر عند خُطْلُوشاه فرآه كهلًا، أمرد، أصفَر، كبيرَ الوجه، عليه غضب وزعارة وأنّه من -[714]-
ذُريّة جنكزخان، ورأى صاحب سِيس واقفًا فِي خدمته وذكر لنا اجتماعه بقازان ودعاءه له بالصّلاح واجتماعه بالوزيرين سعد الدين ورشيد الدولة الطبيب والنجيب اليهودي الكحال وشيخ الشلوح والسيّد القُطْب ناظر الخزانة، والأصيل وُلِدَ النّصير الطوسي ناظر الأوقاف، وهؤلاء متعممو التتار.
وبيعت الكتب وأجزاء الحديث بالهوان، ولم يتورّع أحد عن شرائها إلا القليل وكُشِطت وقفيّتها وغُسِّل بعضها للوراقة وعُدِم شيء كثير من أصول المحدّثين وسماعاتهم، وغَلَت الأسعار ووصل القمح إلى ثلاثمائة درهم وبيع الزّبيب أوقيّتين ونصف بدرهم، ورطل اللحم بتسعة دراهم وأوقية الْجُبن بقريب درهم إلى نحو ذلك.
وبقي قبجق يعمل السَّلْطَنَة ويركب بالشاويشيّة والعُصابة، ويجتمع له نحو مائة فارس، وأمّر جماعة، ورأيناهم لابسي الشرابيش. وولّى ولاية البلد أستاذ داره علاء الدِّين وجعله أميرًا، وجهّز نحو ألفٍ من التَّتَار إلى جهة خِرْبة اللّصوص، وولى شمس الدين ابن الصّفيّ السّنْجاريّ حسْبة البلد، وركب بخلعةٍ بطرحة، وفُتحت أبواب المدينة سوى الأبواب التي حول القلعة.
ويوم الجمعة رابع جُمَادَى الآخرة، صلّى الأمير يحيى بالجامع ويومئذٍ ضُرِبت البشائر بالقلعة وعلى باب قبجق، وسكن فِي دار بَهَادْر آنص.
وفي وسط الشهر نودي فِي دمشق بإدارة الخمر والفاحشة، وجعل ذَلِكَ بدار ابن جرادة بالسبعة، وضمن ذلك اليوم بنحو الألف.
وخرج جماعة من القلعة وساقوا إلى عند باب الجابية وهرب منهم التَّتَار، فضربت العوامّ التَّتَار، وحصل بذلك شَوْشة، وغُلّق باب الصّغير وقُتِل من التَّتَار جماعة فيما قيل.
وفي العشرين من الشهر، رجع بولاي من الغَوْر بتقدمته وجاؤوا إلى ظاهر دمشق، وخاف النّاس، وجُبي من البلد لهم جملة، ثُمَّ خرج جماعة من -[715]-
القلعية وخلصوا غنائم التتار، وقتلوا جماعة وقتل منهم أيضًا جماعة واختبط البلد.
وفي الثامن والعشرين من الشهر دخل الخطيب بدر الدِّين وطائفة إلى القلعة، ومعهم نائب الأمير يحيى، وتكلّموا مع أرجَواش فِي صُلحٍ يكون بينه وبين نوّاب التَّتَار وقبجق، فلم يقع اتفاق.
وفي ثاني رجب جمع قبجق الأعيان والقُضاة إلى داره وحلّفهم للدّولة القازانيّة بالنُّصح وعدم المداجاة.
وتوجّه يومئذٍ ابن تيميّة إلى مخيّم بولاي بسبب الأسرى واستفكاكهم من أصحابه، فغاب ثلاث ليال.
ويوم ثالث رجب توجّه جماعة من الرؤساء بطلبٍ إلى مخيم بولاي ورجعوا من الغد، فنُهبوا عند باب شرقيّ وأُخذت عمائمهم وثيابهم ودخلوا، فطُلبوا فِي اليوم بعينه فاختفى بعضهم وتوجه البعض، فسافر بولاي والتتار، وأخذوا معهم بدر الدين ابن فضل الله وأمين الدين ابن شقير وعلاء الدين ابن القلانسي وولد شمس الدين ابن الأثير، فأطلقوا من عند الفرات ابن شقير فتوصل إلى حلب.
وفي رابع رجب طلع الناس إلى المنائر، وأخبروا أنّهم رأوا خلْقًا من التَّتَار رائحين في عقبة دمر. ورحل بولاي إلى بَعْلَبَكَّ والبقاع ونُظِّفت ضواحي دمشق منهم والبلد وسافر النّاس فِي عاشر رجب إلى القبلة والشمال ويومئذٍ صلّى قبجق الجمعة فِي جمْعٍ كبير معه بالعدد والسلاح في مقصورة الخطابة.
ويوم ثالث عَشْر رجب تشوّش البلد بسبب رجوع طائفة من التتار إلى ظاهر باب شرقي وكان النّاس يتفرّجون فِي غياض السَّفَرْجَل، فرجعوا مسرعين وشُلّح بعضهم وأخذ بعض الصّبيان، ثُمَّ كان هذا آخر العَهْد بالتّتار وكفى الله أمرهم.
وأمّا قبجق فإنّه يوم نصف رجب انفصل عن البلد هُوَ وأتباعه ومعه عزَّ الدِّين ابن القلانسي، وتوجّهوا إلى نحو مصر، فقام أرجَواش بأمر البلد وأمر بحفظ الأسوار والمبيت عليها بالعُدد وأنّ من بات فِي داره شُنِق وأغلق أبواب البلد، ثُمَّ فتح للناس باب النّصر بعد ارتفاع النّهار وجَفَل النّاس من -[716]-
الحواضر، فَلَمّا كان يوم الجمعة سابع عَشْر رجب أعيدت الخطبة بدمشق لصاحب مصر بعد ذِكر الحاكم بأمر اللَّه، فضجّ النّاس عند ذَلِكَ وفرحوا، وكان مدّة إسقاط ذَلِكَ مائة يوم.
ويومئذ دار ابن تيميّة وأصحابه على ما جُدِّد من الخمارات فبدَّد الخمر وشقّ الظّروف وعَزَّر الخمّارين، ثُمَّ زُيّن البلد من الغد يوم السبت.
ويوم عاشر شعبان قَدِمَ الأفرم نائب دمشق بعسكر دمشق، ثُمَّ قَدِمَ أمير سلاح والميسرة المصريّة بعد يومين، ثُمَّ دخلت الميمنة وعليها الحسام أستاذ دار، ثُمَّ دخل يوم رابع عَشْر شعبان القلب وعليه نائب المملكة سلار، ونزل الكل بالمرج.
وفيه وُلّي القضاء بالشام ابن جماعة وقضاء الحنفية ابن الحريري، ودرّس بالأمينيّة جلال الدِّين بدلًا عن أخيه المتوفى إلى رحمة الله، ووُلّي نظر الدّيوان ابن الشّيرازيّ عوضًا عن المتوفى ابن الشيرجي وولي بر البلد الأمير عز الدين أيبك الدويدار النجيبي.
وفي ثامن رمضان رجع سلار بالجيش إلى القاهرة.
وفي شوال بعث الشريف زين الدين ابن عدنان من القاهرة مُقَيّدًا وحُبس بحبْس باب الصغير.
وفي شوّال توجّه ملك الأمراء الأفرم إلى جبال الجرْد لحربهم، فإنّهم كانوا قد بدّعوا فِي الجيش عقيب الكسْرة، وأسروا وقتلوا وسلبوا وما أبقوا ممكنًا، ومع هذا فغايتهم أنّ يكونوا رافضة والا فبعض النّاس يقول: هُمْ زنادقة منحلّين من الدِّين، فذلّوا ودخلوا فِي الطّاعة وقُهروا وقُرِّر عليهم مبلغ كبير من المال والتزموا بردّ جميع ما أخذوه للجند، وأقطعت أرضهم.
وفي ذي القعدة أُلزِم النّاس بتعليق العُدَد وأُمروا بتعلُّم الرمي، وجُدّدت الإماجات فِي المدارس والمساجد ونودي فِي النّاس بذلك وأرسل قاضي القضاة إلى جميع المدارس والفقهاء بذلك، وكُتب إلى جميع البلاد الشّامية فِي هذا المعنى.