وطال أمر الغزاة بالثغور، فتسحّب بعض الأجناد وضعفوا، فجاء الأمر بالتشديد في ذلك. ونصبت مشانق تحت القلعة والأمر برجوعهم ولا يتخلف أحد أبدًا. فخرجوا بأجمعهم مع نائب السلطنة قبجق في نصف المحرم.
وفيه عُزل ابن الجاكي من البرّ وجاء على ولايته حسام الدين لاجين المنصوري الصغير.
وفي سلْخ صَفَر قَدِمَ من الغزاة الأمير علم الدين الدواداري.
وفي سنة ثمانٍ ظهرت الوديعة التي عند فخر الدِّين الفزاريّ لعزّ الدِّين الجناحيّ الَّذِي كان نائب غزّة وهي ستّون ألف دينار عين وجوهر وغيره، مات صاحبها في التجريد بحلب ولم يسلم بها أحد ولم يخلّف وارثًا، فحملها المذكور من تلقاء نفسه إلى بيت المال.
وفي ربيع الأوّل قام جماعة من الشافعيّة المتكلّمين فأنكروا على ابن تيميَّة كلامه فِي الصَّفات. وأخذوا فُتْياه الحمَويّة فردّوا عليه وانتصبوا لأذيته وسعوا إلى القضاة والعُلماء، فطاوعهم جلال الدِّين قاضي الحَنَفِيّة فِي الدّخول فِي القضيّة، فطلب الشَّيْخ، فلم يحضر. فأمر فنوديَ فِي بعض دمشق بإبطال العقيدة الحمويّة، أو نحو هذا. فانتصر له الأمير جاغان المشدّ واجتمع به -[700]-
الشَّيْخ، فطلب منَ سعى فِي ذَلِكَ، فاختفى البعض وتشفّع البعض وضُرِب المنادي ومن معه بالكوافيين وجلس الشَّيْخ على عادته يوم الْجُمُعَة وتكلّم على قوله: {وإنك لعلى خلق عظيم}. ثُمَّ حضر من الغد عند قاضي القضاة إمام الدِّين، رحمه اللَّه وحضر جماعةٌ يسيرة وبحثوا مع الشَّيْخ فِي الحَمويّة وحاققوه على ألفاظٍ فيها. وطال البحث وقرئ جميعها وبقوا من أوائل النهار إلى نحو ثُلث اللّيل ورضوا بما فيها فِي الظّاهر ولم يقع إنكارٌ، بحيث انفصل المجلس والقاضي رحمه اللَّه يقول: كلّ من تكلَّم فِي الشَّيْخ فأنا خصمه.
وقال أخوه القاضي جلال الدِّين: كلّ من تكلّم فِي ابن تيميّة بعد هذا نعزّره. حدّثني بذلك الثّقة. لكنّ جلال الدِّين أنكر هذا فيما بعد ونسي فيما أظنّ. والذين سَعَوا فِي الشَّيْخ ما أبقوا ممكنًا من القذْف والسّبّ ورمْيه بالتّجسيم. وكان قد لحِقهم حسدٌ للشيخ وتألّموا منه بسبب ما هُوَ المعهود من تغليظه وفظاظته وفجاجة عبارته وتوبيخه الأليم المُبكي المُنْكي المثير النّفوس ولو سلم من ذَلِكَ لكان أنفع للمخالفين، لا سيما عبارته فِي هذه الفتيا الحَمويّة. وكان غضبه فيها لله ولرسوله باجتهاده، فانتفع بها أناس وانقصم بها آخرون ولم يحملوها. واتّفق أنّ قبل هذا بأيّام أنكر أمر المنجّمين ومشى إلى نائب نائب السَّلْطَنَة سيف الدِّين جاغان، فامتثل أمره وأصغى إلى قوله واحترمه وطلب منه كثرة الاجتماع به، فشرِقوا لذلك وفعلوا الَّذِي فعلوا واعتضدوا بشيخ دار الحديث.
وبعث جاغان فِي الحال جانداريّة فضربوا المنادي وجماعةً كانوا معه من أذناب الفقهاء. واحتمى صدر الدين ابن الوكيل ببدر الدِّين الأتابكي واستجار به واختفى الأمين سالم وغيره وفرغت الفتنة ورأى قاضي القضاة إخمادها وتسكينها.
وفيها سار غازان إلى بغداد وجهّز عسكرًا إلى البطائح، فأوقعوا بحراميّة الأعراب بالبطائح وقتلوا فيهم خلقًا. وأحسن إلى الرعية. وأمر بتصفية النقدين وتهدد في ذلك.
واشتدّ القحط بشيراز.
قصّة قبجق وألبكي والسلحدار وذهابهم إلى التتار
كان هَؤُلَاءِ وغيرهم قد توحّشت خواطرهم وخافوا على أنفسهم ممّا وقع -[701]-
من منكودمُر الحُساميّ نائب المملكة، من قيامه فِي إعدامه جماعة من الأمراء المجرّدين بحلب بالسُمّ وغير ذَلِكَ. وعلموا أنّ أستاذه لا يزيل خوفه لمحبّته له واعتماده عليه فِي سائر الأمور، فاتّفقوا على أنّ مصلحتهم الدّخول إلى عند قازان لأنّهم بلغهم إسلامه. فساروا من حمص فِي ليلة ثامن ربيع الآخر ثلاثتهم والأمير بُزْلار فِي خواصّهم وساقوا على جهة سَلَميَة من حمص. ورجع طائفة كبيرة من العسكر، فَلَمّا كان بعد عَشْر ليالٍ من مسيرهم وصل البريد إلى دمشق وجماعة، فأخبروا بقتل السّلطان ونائبه ومعهم كُتُب من الحسام أستاذ دار وطغجي وكرجي بالواقعة، فحلفت الأمراء للسلطان الملك النّاصر وأُحضر من الكرك وملكوه وهذه سلطنته الثانية وساقوا خلف قبجق ليرجع مُكَرِّمًا آمنًا، ففات الأمر وعلموا بذلك بأرض سنجار، ثُمَّ قُيِّد جاغان والحسام لاجين والي البرّ وأُدخلا القلعة.
ثُمَّ بعد خمسٍ أتى الخبر بقتل طُغْجي وكُرْجي وطيف برأس كُرْجي الَّذِي قتل السّلطان ونائبه منكوتَمُر وأُلقي طُغْجي على مزبلة ودُفن السّلطان عند تُربة ابن عبّود ودفن نائبه عند رجليه، ثُمَّ بعد أيّام أخرج من الحبس جاغان ووالي البر، ثُمَّ جاء البريد باستقرار أتابكيّة الجيش للأمير حسام الدين لاجين أستاذ دار وبنيابة المملكة للأمير سيف الدِّين سلار المَنْصُورِيّ مملوك الملك الصالح علي ابن الملك المنصور سيف الدين.
وفي جُمَادَى الأولى ركب السّلطان بالقاهرة فِي الدَّسْت والتّقْليد الحاكميّ وقد دخل فِي خمس عشرة سنة.
وفيه قَدِمَ دمشقَ على نيابتها الأمير جمال الدين الأفرم المنصوري فنزل بدار السعادة. ثُمَّ قَدِمَ طُلْبُه بعد أيّام.
ووُلّي الشّدّ أقجبا المَنْصُورِيّ وولاية البلد جمال الدِّين إِبْرَاهِيم ابن النّحاس وولاية برّ البلد عماد الدِّين حَسَن ابن النشابي.
وفيه وقف الدّواداريّ الرِّواق الَّذِي بداره وجعل شيخه أبا الحسن ابن العَطَّار ونزل فِيهِ عشرة فقهاء وعشرة محدّثين، فأُلقي الدّرس بحضرة الواقف فِي جمْعٍ كبير من القضاة والأعيان والأمراء ومدّ لهم سماطا وفي جُمَادَى الآخرة ولي نظر الدّواوين فخر الدين ابن الشيرجي. -[702]-
وفي رجب قَدِمَ عسكر من مصر عليهم الأمير سيف الدِّين بَلبَان الحُبَيشيّ وهو شيخ قديم الإمرة وفيه مُسِك سيف الدِّين كُجْكُن وحُبس بقلعة دمشق.
وفي رمضان أُخرج الأعسر من الحبس بمصر وولي الوزارة وقبل ذَلِكَ فِي شعبان أُخرج الأمير قُراسُنقُر المَنْصُورِيّ من الحبْس وأُعطي الصُبَيْبَة وبلادها، فتوجّه إليها.
وحج بنا الأمير شمس الدين العينتابي.
وفي شوّال جُدِّد مشهد عثمان بجامع دمشق وكان أكثره معطِّلًا بآلاتٍ وخشب وبعضه بيت للخدام، فحُرّر جميعه وبُيّض وعُمل له طراز مذهب وقُرّر له إمامٌ راتب. وذلك فِي مباشرة ناصر الدِّين أَحْمَد بْن عَبْد السّلام للنّظر وصار يجلس به قاضي القضاة للأحكام يوم الْجُمُعَة بعد ذهاب ملك الأمراء. واستمرّ إلى الآن.
وفي ذي القعدة توفي البيسري بالجب وتوفي المظفر صاحب حماة.
وفي ذي الحجّة كثُرت الأخبار بحركة التّتار وعزْمهم على قصد البلاد وأنّ المحرِّك لهمّتهم قبجق وبكتمر السلحدار.
وفيه أُعيد القاضي حسام الدِّين الحَنَفِيّ إلى قضاء دمشق وأُعيد السُّروجيّ إلى قضاء القاهرة.
وفيه أعطي قراسنقر المنصوري حماة، تُوُفّي صاحبها، فسار قراسنقر من الصُّبَيْبَة إليها.
وفيه كانت على الركْب الشاميّ هَوْشة بمكة وقُتل جماعة وجرح نحو ستين نفْسًا ونُهب من كان منهم داخل مكَّة.