-سنة ثمانين وستمائة

فِي أوائل المحرَّم هادن السّلطان أَهْل عكا ونزل اللَّجُون وقبض على الأمير سيف الدّين كَوُنْدُك الظاهري وعدّة أمراء بحمراء بيسان. فَقِيل: إنّ كَوُنْدُك وأيْتِمش السَّعْديّ وسيف الدّين الهارونيّ وطائفة اتّفقوا على الفتْك بالسّلطان، وعرف ذلك البَيْسَريّ، فأعلمه، فقبض على كَوُنْدُك وغيره وهرب الباقون؛ الهاروني والسعدي ونحو ثلاثمائة فارس على حَمِيّةٍ إِلَى عند سُنْقر الأشقر. وأهلك كَوُنْدُك، فَقِيل: إنّه غُرِّق ببُحَيْرة طبريّة. وساق طقصُو فِي عسكر وراء أيْتمِش السَّعْديّ، فجرح ورد.

ويوم سابع عشر المحرَّم وصل المحمَّديّ مقدَّم البحريّة إِلَى دمشق ومعه جماعةُ أمراء ممسوكين، فحبسهم بقلعة دمشق ودخل السّلطان دمشق يوم تاسع عشر المحرَّم وحمل الْجَتَر البَيْسريُّ يومئذٍ، فعزل ابن خَلِّكان عن القضاء بابن الصّائغ وولي قضاء الحنابلة نجم الدين أحمد ابن الشَّيْخ شمس الدّين، وذلك بعد خُلُوّ الشّام من قاض حنبلي مدة.

ثُمَّ جهزت المجانيق وطائفةٌ لحصار شَيْزَر، فنازلوها وتسلّموها وذلك أنّ الرُّسُل ترددت فِي الصلح بين السّلطان وبين سُنْقر الأشقر ووصل من جهته الأمير علم الدّين الدَّواداريّ والأمير خَزْنَدَار سنقر الأشقر. فحلف له السلطان ونودي من دمشق باجتماع الكلمة ودُقّت البشائر لذلك، وسيّر إليه فخر الدّين المقري الأمير ليحلّفه وحينئذٍ سلّم سُنْقر الأشقر قلعةَ شَيزر للسّلطان، فعوّضه عنها كفر طاب وفامية وأنطاكية والسُّوَيْديّة وشَغَرَ وبَكّاس ودركوش، بضياعها، على أن يقيم ستمائة فارس على جميع ما تحت يده من البلاد وذلك ما ذكرناه، وصهيون وبلاطُنُس وجَبَلَة وبرزية واللّاذقية؛ وخوطب فِي ذلك بالمقرّ العالي، المولوي، السيدي، العالمي، العادِليّ، الشّمسيّ، ولم يصرَّح له فِي ذلك بالملك ولا بالأمير.

وَفِي ربيع الأول أُديرت الجهة الملعونة والخمور بدمشق وكانت بطّالةً من خمس عشرة سنة، وأديرت بالديار المصريّة أيضًا قبل هَذَا التاريخ بمدّة، فلا قوّة إلّا بالله، وبقيت دائرةً بدمشق أياما، ولطف الله وبطلت وأريقت -[219]-

الخمور. وطُهِّر البلد من ذلك. ولله الحمد.

ووقع الصُّلح بين صاحب الكَرَك الملك خضِر وبين السلطان، ثُمَّ جاءت امْرَأَة الملك الظاهر بِنْت بركة خان ومعها تابوت ولدها الملك السعيد، ثُمَّ استبقوا التّابوت باللّيل من الصّور ودُفن إِلَى جانب والده. وأدخله القبر قاضي القضاة عزُّ الدّين ابن الصائغ، ونزلت أمّه بدار صاحب حمص وعُقِد العزاء من الغد بالمدرسة الظاهرية، وحضره السّلطان والأمراء والأعيان والوعاظ.

وعُزِل تقيّ الدّين البيِّع من الوزارة وباشر عوضه تاج الدين ابن السنهوري.

وَفِي جُمَادَى الأولى جاءت الأخبار بأن التّتار على عزْم المجيء.

وقعة حمص

انجفل أَهْل البلاد الشّماليّة وقويت الأخبار واهتّم السّلطان بدمشق للعَرْض، وجاء أَحْمَد بْن حجّي بخلقٍ من العربان وكثُرت الأراجيف وكثُرت الْجُفّال، وعدّى التّتار الفُرات من ناحية حلب، ونازل الرّحبَةَ منهم ثلاثة آلاف، منهم القان أبْغا، فخرج السّلطان بسائر الجيوش، وقَنت الأئمّةُ فِي الصَّلوات، وحضر سُنْقر الأشقر وأيْتمش السَّعْديّ، والحاجّ أزْدمر، وبالغَ السّلطان في احترام سُنْقر الأشقر، وأقبل منكوتمر يطوي البلاد، فالتقى الجمعان ووقع المَصَافّ ما بين مشهد خَالِد بْن الْوَلِيد إِلَى قريب الرَّسْتن، وذلك بشمالي حمص، فِي يوم الخميس رابع عشر رجب. ويوم الأربعاء قلق العالم بدمشق وأحسّوا بقرب اللّقاء، وفزِعوا كافّةً إِلَى جامع دمشق بالشّيوخ والأطفال واستغاثوا إِلَى الله، ثُمَّ خرج الخطيب بالمُصْحَف العثمانيّ إِلَى المُصَلّى ومعه خلائق يتضرعون إلى الله، وكان يوما مشهودا، شهده مع السلطان ممالكيه، مثل طرنطية وبيدرا، وكتبغا، ولاجين، وقبجق، وقراسنقر، وسنْجر الشِّجاعيّ، والطّبّاخيّ، وسَنْدَمُر، وعدّةٌ كلهم أمراء، وفيهم من تَسَلْطَن، وسُنْقُر الأشقر، والحاجّ أزْدَمر الَّذِي قيل إنّه طعن طاغية العدو، وعلم الدّين الدّواداريّ، والمنصور صاحب حماة فِي أَمرائه، فكان رأس الميمنة ويليه -[220]-

البَيْسَريّ، ثُمَّ طَيْبَرس الوزيريّ وعزّ الدّين الأفرم ونائب دمشق لاجين المذكور فِي عسكر دمشق. وكان رأس الميسرة سُنْقر الأشقر المذكور، ثُمَّ الأيْدمريّ، ثُمَّ بكتاش أمير سلاح. وكان فِي طرف الميمنة العرب، وفي طرف الميسرة التركمان، وشاليش القلب طرنطية، وكانت المُغْلُ خمسين ألفًا، والمجمَّعة ثلاثين ألفًا.

قلت: وكان الملتقى يوم الخميس، كما ذكرنا، طلوع الشمس. وكان عدد التّتار على ما قيل مائة ألف أو يزيدون. وكان المسلمون على النّصف من ذلك أو أقل.

وكانت ملحمة عظيمة، واستظهر التّتار فِي أول الأمر واضطّربت ميمنة المسلمين، ثُمَّ حملت التّتار على الميسرة فكسروها وهزموها مع طرف القلب. وثبت السّلطان بمن معه من أبطال الإِسْلَام، وكان القتال يعمل من ضحوةٍ إِلَى المغيب. وساق طُلُبٌ من التّتار وراء الميسرة إِلَى بُحَيْرة حمص، وقتلوا خلقًا من المطّوّعة والغلمان وأشرف الإِسْلَام على خطّهِ صَعْبة. ثُمَّ إنّ الكبار مثل البَيْسريّ وسُنْقُر الأشقر وعلاء الدّين طيبرس وأيْتمِش السَّعْديّ وبكتاش أمير سلاح وطرنطيه ولاجين وسنْجر الدّواداريّ لمّا رأوا ثبات السّلطان حملوا على التّتار عدّة حملات، ثُمَّ كان الفتح ونزل النصر وجُرح مقدَّم التّتار منكوتمر بْن هولاكو، وجاءهم الأمير عِيسَى بْن مُهَنّا عَرْضًا، فتمّت هزيمتهم واشتغلوا بما دَهَمُهم من جرح مقدَّمهم. وركب المسلمون أقفيتهم وقتلوا منهم مقتلة هائلة، وساقوا وراءهم حَتَّى بقي السّلطان فِي نفرٍ قليل من الخاصكيّة ونائبه طرنطاي قُدّامه بالصناجق. وردّت ميمنة التّتار الّتي كسرت ميسرة المسلمين، فمرّوا بالسلطان وهو تحت العصائب والكوسات تضرب وحوله من المقاتلة أقلّ من ألف، فَلَمَّا جاوزوه ساق وراءهم، فانهزموا لا يلوون على شيء، وتمّ النّصر بعد العصر، وانهزموا عن آخرهم قبل الغروب وافترقوا، فأخذت فرقة على سَلَمية والبرّيّة، وأخرى على ناحية حلب. وعاد السلطان إلى منزلته بليل، وجهز من الغد وراءهم الأيْدمريّ فِي طائفةٍ كبيرة وجاءت يوم الجمعة بطاقة بالنّصر، فضُربت البشائر وزُيّنت دمشق، فلما كان -[221]-

نصف اللّيل وصل إِلَى ظاهر دمشق المنهزمون من الميسرة أمراء وأجناد، ولم يعلموا بما تجدّد من النّصر، فقلق الخلْق، وماج البلد وشرع خلْقٌ فِي الهروب. ثُمَّ وصل وقت الفجر بريدي بالبشارة بعد أن قاسى الخلْق ليلةً شديدة وتودّعوا من أولادهم واستسلموا للموت، فإنّ أولئك التّتار كانوا يبذلون السّيف من غير تردُّد. ورأسهم كافر وأكثرهم على الكُفر، فللّه الحمدُ على السلامة. وكان للصبيان والنسوان فِي تلك الليلة فِي الأسطحة ضجيجٌ عظيمٌ وبُكاء والتجاء إلى الله تعالى لا يعبر عنه.

وكان رُكْنُ الدّين الجالق من جملة المنهزمين ولم يعنّفْه السّلطان لأنّه رَأَى ما لا قِبَل له به. فَلَمَّا صُليّت الصُّبْح قُرِئ الكتاب السلطاني بكسرة التّتار وأنّهم كانوا مائة ألفٍ أو يزيدون. ثُمَّ جاء كتاب آخر قبل الظُّهْر فِي المعنى وزُيّنت دمشق. واستشهد نحو مائتي فارس منهم الحاجّ أزْدمر، وسيف الدّين الرُّوميّ، وشهاب الدّين توتل الشَّهْرَزُوريّ، وناصر الدّين ابن جمال الدّين الكامليّ، وعزّ الدين ابن النصرة المشهور بالقوة المفرطة والعرامة.

ودخل السّلطان دمشق يوم الجمعة المقبلة وبين يدي موكبه أسرى التتار يحملون رماحا على شعف القتلى، وقدِم فِي خدمته مِمَّنْ كان انضم إِلَى سُنْقر الأشقر أيْتمش السَّعْديّ، وسيفُ الدّين بلبان الهارونيَ، وعلم الدّين الدّواداريّ وودّعه سُنْقر الأشقر من حمص وعاد إِلَى صهيون، وترحّل أولئك الّذين نازلوا الرَّحبَة.

ثُمَّ قدِم بعد جمعة بدر الدين الأيدمري وقد أنكى في التّتار، وتبعهم إِلَى قريب الفرات، وهلك منهم خلقٌ عند تَعْدِيتهم الفرات، ونزل إليهم أَهْل البيرة، فقتلوا فيهم وأسروا، وتمزقوا وتعثروا، وتوصّلوا إِلَى بلادهم فِي أسوأ حال، فلله الحمد على كل حال.

ودخل السلطان إلى القاهرة يوم الأحد ثاني شعبان، فوصل فِي عشرين يوما إلى القاهرة.

وترتب في شد دمشق علم الدين الدواداري. -[222]-

ومات بين العيدين ملك التتار أبغا.

وفي شعبان قبض بمصر على الأميرين: رُكن الدّين أباجو الحاجب وبهاء الدّين يعقوبا.

وَفِي رمضان فُتِحت المدرسة الجوهريّة ودّرس بها القاضي حسامُ الدّين الحنفيّ بحضرة واقفها الصَّدر نجم الدين.

وجاء فِي رمضان ثلجٌ مُفْرِط، وطال بقاؤه، واشتدّ البرد وجلّد ببْعلَبَكّ الفُقّاع وذلك غير منكر بها.

وفي جمادى الآخرة من هذه السُّنّة رسم الملك المنصور بعرض الدّواوين من أَهْل الذِّمة على السّيف أو يُسْلِمون، فأبّوا، فأخرجوهم بدمشق إِلَى سوق الخيل، وجُعلت الحبال فِي أعناقهم للشَّنْق، فأسلموا حينئذٍ وأُحضِروا إِلَى الحاكم فأسلموا على يده، فَلَمَّا كان فِي شوّال من السّنة فكّروا فِي أنفسهم واستفتوا الفقهاء. ثُمَّ عُقِد لهم مجلسٌ ورُسم للقاضي المالكيّ أن يسمع كلامهم ويحكم بما يوافق مذهبهم، فأثبتوا ذلك، وعاد أكثرهم إِلَى دِينهم وغرموا مبلغا من المال على ذلك.

وَفِي ثاني عشر آذار فِي شهر ذي القعدة خرج النّاس ونائب السلطنة إِلَى الصحراء بدمشق يستسقون.

وفيه بعث السّلطان الملك المنصور بنات الملك الظاهر وسلامش وخدمهم إلى قلعة الكرك.

وَفِي هَذِهِ السّنة تُرِّبَتْ جزيرةٌ هائلة تجاه بولاق وبَعُدَ البحرُ عن القاهرة وغلا سعر الماء.

ويوم عَرَفَه أُفرِج عن البُرهان السّنْجاريّ الوزير ولزم بيته بعد مشاق شديدة.

وفي رجب درس بالأمينية الشيخ علاء الدين ابن الزَّمْلَكَانيّ، شدّ منه الشّمسيّ، وتعجّب الفُضلاء، فإنّه كان قليل الفقه، مليح الشَّكْل، ثُمَّ أُخذت منه، ثمْ وليها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015