-سنة تسع وسبعين وستمائة

فِي مستهلها ركب السّلطان سُنْقر الأشقر من القلعة بأُبَّهة المُلْك، ودخل الميدان وبين يديه الأمراء بالخِلَع، وسيّر لحظةً، وعاد إِلَى القلعة، وجهّز عسكرًا، فنزلوا عند غزّة، وكان عسكر المصريّين بغزّة، فأظهروا الهرب، ثُمَّ كرّوا على الشاميّين، فكبسوهم ونالوا منهم، وهزموهم إِلَى الرَّملة.

وَفِي خامس المحرَّم وصل أمير العرب عِيسَى بْن مُهَنّا، ودخل فِي طاعة الملك الكامل سُنْقر الأشقر، فبالغ فِي إكرامه، وأجلسه على السماط إلى -[214]-

جانبه، ثُمَّ قدِم أمير آل مرّيّ أَحْمَد بن حجي على الكامل فأكرمه.

وفيه ولي قاضي القضاة ابن خَلِّكان تدريس الأمينية، وعزل نجم الدين ابن سني الدولة.

وَفِي أواخر المحرَّم جهّز السّلطان الملك المنصور من مصر جيشًا، عليهم الأمير علم الدّين سنجر الحلبي لحرب الملك الكامل فتقهقر يزكه إلى أطراف دمشق، وفي ثاني عشر صفر خرج الملك الكامل سُنْقر الأشقر، فنزل على الجسورة واستخدم وأنفق، وجمع خلْقًا من البلاد، وحضر معه ابن مُهَنّا وابن حجّي بعرب الشّام، وجاءته نجدة حماة وحلب، وتصمّد معه جيشُ كثيف، لكن لم يكونوا كلهم في الباطن معه، بل كان كثير منهم عليه، وبعضهم فارغين. وأقبل الحلبيّ بالمصريّين، فالتقوا بُكْرَةً عند الجسورة، والْتحم الحرب، واستمر المَصافّ إِلَى الرابعة، وقاتل سُنْقر الأشقر بنفسه وحمل عليهم، وبيّن، لكنْ خامَرَ عليه أكثَرُ عسكره، فانهزم بعضُهم وتحيّز بعضهم إِلَى المصريّين، وانهزم صاحب حماة من أوّل ما وقعت العينُ فِي العين، وبقي في فل من النّاس، فولّى وسلك الدّرب الكبير إِلَى القطيفة، ولم يتبعه أحد، وتجمع المنهزمون على القصب من أعمال حمص، ثُمَّ عاد أكثر الأمراء ولم يُعاقبوا.

وأما المصريّون فأحاطوا بدمشق ونزلوا فِي خِيَم المنهزمين، وراسلوا نائب سُنْقر الأشقر الَّذِي بالقلعة، ففتح لهم باب الفَرَج وفُتِحت القلعة بالأمان. ثُمَّ جهز الأمير علم الدّين الحلبيّ ثلاثة آلاف في طلب سنقر الأشقر.

وركب قاضي القضاة ابن خَلِّكان للسّلام على الحلبي فحبسه بعلو الخانكاه النَّجِيبيّة، وعزله، ووُلّي القضاء القاضي نجم الدّين ابن سَنِيّ الدولة، وكان يحترمه لأنّه لمّا تسلطن بدمشق فِي آخر سنة ثمانٍ وخمسين كان نجم الدّين هُوَ قاضي دمشق حينئذٍ. وحكم الحلبيّ فِي البلد. وحضر إليه الأمير أحمد بن حجي، ودخل في الطاعة.

وأما ابن مهنا فإنه توجه في صُحبَة سُنْقر الأشقر ولازَم خدمته، ونزل به وبمن معه من العسكر فِي برّيّة الرَّحبَة وأقام بهم.

وأخرج الحلبيّ من حبس القلعة رُكْن الدّين الجالق وحسام الدّين -[215]-

لاجين وتقيّ الدّين الصاحب، وحبس ابن كُسَيْرات وابن صَصْرَى. وبقي ابن خَلِّكان فِي الاعتقال نيّفًا وعشرين يومًا. وضُرِب زين الدّين وكيل بيت المال، لأنّهم تسرّعوا إِلَى مبايعة سُنْقر الأشقر. وطلب ابن الصائغ فأكرمه، فشفع فِي القاضي ابن خَلِّكان وَفِي زين الدّين الوكيل. وعرض عليه الحلبيّ القضاء فعيّن نجم الدّين ابن سَنِيّ الدولة، وعلم أنّها ولايةٌ مُقَلْقَلَة لكونها من غير السّلطان.

ثُمَّ ورد البريد فِي الثامن والعشرين من مصر بأنّا قد عَفَوْنا عن جميع النّاس من الخاصّ والعامّ، ولم نؤاخِذْ أحدًا، وأن يقر كل أحد على منصبه.

وباشر نيابة السلطنة الأمير بدر الدّين بكتوت العلائيّ أيّامًا إِلَى أوائل ربيع الأوّل. ثُمَّ جاء تقليدٌ بالنيابة لملك الأمراء حسّام الدّين لاجين المنصوريّ الَّذِي حبسه سُنْقر الأشقر، فباشر يوم الأربعاء الحادي عشر من ربيع الأول، وقُرِئ تقليده بدار السّعادة. وكان شابًّا عاقلًا، شجاعًا، دينًا، من سلَحْداريّة السّلطان الملك المنصور أيّام إمرته. ودخل معه دار السّعادة الأميرُ علم الدّين الحلبيّ، ورتّبه فِي النّيابة، ومشى فِي خدمته الأمراء.

وصَرَفَ الحلبيّ ابن خَلِّكان إِلَى منزله بالمدرسة العادليّة، وبقي ابن سَنِيّ الدولة يتردّد إِلَى المدرسة ويحكم بها. وأمره الحلبيّ بأن يتحوّل من العادليّة ويسلمها إِلَى ابن سَنِيّ الدّولة، فشُقّ ذلك عليه، وتكرّر إليه القول بسُرعة التحول، فبينا هو في ذلك وقد أحضر جمالًا لنقْل حوائجه إِلَى جبل الصالحية، وإذا بكتاب سلطاني بالإكرام، والإقرار له على منصبه، وإعادته إِلَى القضاء، فباشر الحكم يومئذ الظهر، ولبس الخلعة، وأعيد إلى ولاية المدينة ابن الحراني.

وَفِي أوائل ربيع الآخر توجّه من دمشق الأميرُ عز الدّين الأفرم نجدةً للجيش المصريّ الّذين توجّهوا لمضايقة سُنْقر الأشقر، فاجتمعوا بحمص، ثم ساروا في طلب سنقر الأشقر، ففارق ابن مُهَنّا وتوجَّه إِلَى الحصون الّتي بيد نوّابه، وطلع إليها، وهي صهيُون - وكان سير إليها أهله وخزائنه - وبلاطُنُس، وبرزية، وعكّار، وجَبَلة، واللّاذقيّة، وشَيْزَر، والشغر، وبكاس. -[216]-

وكان قد انهزم يوم الوقعة الأمير الحاج أزدمر إلى جبل الخرديين، وأقام عندهم واحتمى بهم، ثُمَّ مضى إِلَى خدمة سُنْقر الأشقر فِي طائفة من الجبلّيين، فأنزله بشيزر يحفظها.

وَفِي جُمَادَى الآخرة وُلّي نظر الدّواوين الصّاحب محيي الدين ابن النحاس.

وفيه وصل الْجُفّال من البلاد الحلبيّة من التّتار وتقهقر عسكرها. وسبب حركتهم ما بلغهم من اختلاف الكلمة.

وتوجّه فِي جُمَادَى الأولى عسكر المصريّين ونازلوا شَيْزَر وضايقوها بلا محاصرة، وتردّدت الرُّسُل بينهم وبين سنقر الأشقر في تسلمها. فبينا هُمْ فِي ذلك وصلَت الأخبارُ فِي جُمَادَى الآخرة بأنّ التّتار قد دهموا البلاد، فخرج من بدمشق من العساكر، وعليهم الرُّكْن أباجو، وانضم إِلَى العساكر الّتي على شَيْزر، ثُمَّ نزل الكُلُّ على حماة؛ وقدِم من مصر بكتاش النجمي في ألف، فلحق بهم، وأرسل هَؤُلَاء إِلَى سُنْقر الأشقر يقولون: هَذَا العدو قد دهَمَنا وما سببه إلّا الخلف الَّذِي بيننا، وما ينبغي أن تهلك الرّعيّة فِي الوسط، والمصلحةُ أنّنا نجتمع على دفْعه. فنزل عسكر سُنْقر الأشقر من صهيون والحاجّ أزْدمر من شَيْزَر، وخيّمت كلُّ طائفةٍ تحت حصنها، واتّفقوا على المُلْتَقَى وقتال التّتار، وجاءت طائفةٌ عظيمةٌ من التّتار، فقتلوا من تَبَقَّى بحلب وسبوا ونهبوا وأحرقوا منبر الجامع والمدارس ودور الأمراء، وعملوا كل قبيح كعاداتهم الجميلة، وأقاموا بحلب يومين، واستاقوا المواشي والغنائم.

وقيل: إنّ بعض من كان استتر بحلب يئس من الحياة ووقف على رأس منارة حلب، وكبّر بأعلى صوته على التّتار وقال: اللّه أكبر جاء النصر من عند اللّه؛ ولوّح بثوبه، وبقي يقول: أمسِكُوهم من البيوت مثل النساء يا عساكر الإِسْلَام. فخرج التّتار على وجوههم يظنّون أن المسلمين جاءوا. وكانوا قد بلغهم اجتماع العسكر على حماة، وسلِم ذلك الرجل. نقل ذلك الشيخ قطب الدين. -[217]-

وَفِي هَذِهِ الأيام تسحّب جماعةٌ من الأمراء الّذين عند سُنْقر الأشقر إِلَى السّلطان. وكان السّلطان قد سار ببقية الجيش فنزل غَزَّة.

وَفِي هَذِهِ المدّة خُطِب على المنابر بولاية العهد للملك الصالح عليّ ابن السّلطان الملك المنصور.

وفيها أعيد السنجاريّ إِلَى الوزارة، ورُدّ ابن لقمان إلى ديوان الإنشاء.

ورجع السّلطان من غزّة لمّا بلغه رجوع التتار وأمن البلاد.

وَفِي رمضان أعيد تقي الدّين ابن رزين إِلَى قضاء الدِّيار المصريّة، وعُزِل صدر الدّين ابن بِنْت الأعزّ. وأعيد قبل ذلك إِلَى القضاء القاضيان نفيس الدّين ابن شُكْر، ومُعِّز الدّين النُّعمان. ورُتّب قاضٍ حنبليّ وهو الشَّيْخ عزُّ الدّين عُمَر بْن عَبْد اللَّه بْن عوض المقدسي صهر الشيخ شمس الدين ابن العماد. أما معز الدين الحنفي فهو أيضا رتب ولم تتقدم له ولاية إلا عند ترتيب القاضي الحنبلي المذكور.

وَفِي ذي القعدة كان طائفة من الشاميّين نُزّالٌ بمرج المَرْقَب، فداخلهم طمعٌ فركبوا من الليل، وصبحوا المَرْقَب للغارة، فخرج الفِرَنْج وقد جاءتهم نجدةٌ فِي البحر، وحملوا على المسلمين، فهزموهم ومزّقوهم في أودية وعرة، فنالوا منهم نَيْلًا عظيمًا وقتلوا وأسروا. فَمَا شاء الله كان.

وَفِي أوّل ذي الحجّة خرج السّلطان إِلَى الشام وخلفه ولده الملك الصالح.

ويوم عرفة وقع بديار مصر بردٌ كِبار، فأهلك بعض الزَّرْع وبدّع فِي الوجه القِبْليّ. ووقع تحت الجبل الأحمر صاعقة على حجر، فأخذت وسبكت وجاء منها نحو الأوقية، ووقعت يومئذ صاعقة بالإسكندرية.

وَفِي سابع عشر ذي الحجّة نزل السّلطان على الرَّوْحاء قُبالة عكّا، فراسله أهلها فِي الهدنة. وأقام هناك أياما وقدِم عليه عِيسَى بْن مُهنّا طائعًا، فبالغ السلطان في إكرامه واحترامه، وصفح عنه قيامه مع سنقر الأشقر.

وفيها وَزَرَ بدمشق الشَّرَف ابن مُزْهر، ومدّ يده، ثُمَّ أعيد التقيّ البيّع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015