فِي شهر جُمَادَى الآخرة نزلت التّتار على الْبِيرة فِي ثلاثين ألفًا وأكثرهم من عسكر الروم وماردين، فَبيّتهم أَهْل الْبِيرة وأحرقوا المجانيق ونهبوا وعادوا، فجدّ التَّتار فِي الحصار والقلعة بحمد اللّه عاصية، ثُمَّ رحلوا عَنْهَا وسلّم الله وأقاموا عليها تسعة أيّام. ولما بلغ السّلطان ذلك أنفق فِي الجيش ستّمائة ألف دينار وأكثر وسار، فبلغه وهو بالقطيفة رحيل التّتار، فوصل إلى حمص ورجع إلى القاهرة.
ولمّا رحلت التّتار اتّفقوا مع البَرَوَاناه على منابذة ملكهم أبغا، فخلف البرواناه الأمير حسام الدّين بيجار وولده بهاءُ الدّين وشَرَفُ الدين مسعود ابن الخطير وأخاه ضياء الدّين والأمير ميكال، على أن يكونوا مع الملك الظاهر، ثُمَّ كتب إِلَى الظاهر بِذَلِك على أن يرسل إليهم جيشًا ويحمل إلى الظاهر ما يحمل إلى التتر، ويكون غياث الدّين على ما هُوَ عليه من السلطنة.
غزوة النُّوبة ودُنْقُلَة
توجّه من مصر جيش عليهم عزّ الدّين أَيْبَك الأفرم وشمس الدين الفارقاني إلى النوبة في ثلاثمائة فارس، فوصلوا دُنْقُلَة، فخرج إليهم ملكها دَاوُد على النُّجُب، بأيديهم الحِراب وليس عليهم لَامَة، فَرَمَوْهُم بالنُّشّاب، فانهزموا وقُتِل منهم خلْق وأسِر خلْق وبِيع الرّأسُ من السَّبْي بثلاثة دراهم، ومرّ دَاوُد فِي هروبه بملكٍ من ملوك النوبة، فقبض عليه وأرسل به إِلَى الملك الظاهر ووُضِعت الجزية على أَهْل دُنْقُلَة ولله الحمد.
وأوّل ما غُزِيَت النُّوبة فِي سنة إحدى وثلاثين، غزاها عبدُ اللّه بن سعد ابن أبي سرح فِي خمسة آلاف فارس، وأصيبت في هذه الغزوة عين حديج ابن -[201]-
مُعَاوِيَة وعين أبرهة بْن الصباح. ثُمَّ هادنهم عَبْد اللّه وردّ. ثُمَّ غُزِيَت فِي زمن هشام ولم تفتح، ثم غزيت زمن المنصور، ثُمَّ غزاها تكِين الترّكيّ، ثُمَّ غزاها كافور صاحب مصر، ثُمَّ غزاها ناصر الدّولة ابن حمدان، فبيّتوه وردّ مهزومًا. وغزاها تورانشاه أخو السّلطان صلاح الدّين فِي سنة ثمان وستين وخمسمائة ووصل إلى أبريم ولم تفتح إلى الآن كما قَالَ ابن عَبْد الظاهر:
هَذَا هُوَ الفتح لا شيء سمِعْتُ بهِ ... فِي شاهد العين لا ما في الأسانيد
وفي ذي الحجة عقد للملك السعيد على ابنة الأمير الكبير سيف الدين قلاوون الألفي على صداق خمسة آلاف دينار، وكتب الكتاب محيي الدين ابن عبد الظاهر وقرأه، فخلع عليه وأعطي مائة دينار وأوله: الحمد لله موفق الآمال لأسعد حركة، ومصدق المقال لمن جعل عنده أعظم بركة، ومحقق الإقبال لمن أصبح نسيبه سلطانه وصهره ملكه؛ إلى أن قال: وبعد فلو كان إيصال كل شيء بحسب المتصل به لما استصلح البدر شيئا من المنازل لنزوله ولا الغيث شيئا من الرياض لهطوله، ولا الذكر الحكيم لسانا من الألسنة لترتيله، ولا الجوهر الثمين شيئا من التيجان لحلوله .. ومنه: فخطب إليه أسعد البرية، وأمنع من تحميها السيوف المشرفية، وأعز من تسبل عليها ستور الصون الخفية، وتضرب دونها خدور الجلالة الرضية، وتتجمل بنعوتها العقود كيف لا وهي الدرة الألفية.
وفي ذي الحجة سار السلطان إلى الكرك وجعل فيه الطواشي شمس الدين صواب السهيلي ثم قدم دمشق.
الزلزلة
وفيها كانت زلزلة عظيمة بخلاط أخربت كثيرا من دورها، وهلك جماعة تحت الردم واتصلت بأرجيش فأخربتها وخسفت منها مواضع، وأما ماردين وميافارقين فشعثت فيها. -[202]-
وفيها افتتح حصن القصير، وهو بين حارم وأنطاكية وكان فيه قسيس عظيم يقصد من البلاد فحاصرته العسكر الحلبي مع بلبان الرومي الدويدار، فنزل القسيس وسلمه بالأمان في جمادى الأولى. وهذا الحصن لم يفتحه صلاح الدين فيما فتح، وكان أهله أهل شر وأذية.
وفيها سير السلطان رسلا إلى الفنش صاحب إشبيلية لكونه كان بعث رسولا بتقدمة سنية، فسير السلطان الأميرين سيف الدين الجلدكي وعز الدين الكبكبي، والعدل ابن البيع، ومعهم هدية، فركبوا في البحر وتوصلوا إلى بلنسية، ثم إلى الفنش، فاحتفل لالتقائهم وبالغ في إكرامهم ثم سفرهم فقدموا مصر في صفر من سنة خمس وسبعين.
وفيها أخذ رجل وامرأة في رمضان في بغداد في حمام على الفاحشة، فأفتى الفقهاء برجمهما فحصبا بظاهر بغداد، وما رجم ببغداد أحد قبل هذين فكأنهما اعترفا.