في أولها دخل البرلي إلى حلب مرةً أخرى، فخرج البُنْدُقْدار عَنْهَا، وأظهر البرلي طاعةَ السُّلطان، وكان شجاعًا مذكورًا لا يُصطلى بناره.
وقال ابن خلِّكان، رحمه الله: فِي أثنائها توجه عسكر الشّام إلى أنطاكية، فأقاموا قليلًا عليها، ثم رجعوا، فأخبرني بعضهم بغريبةٍ، وهي أنهم نزلوا على جَرُود وهي بين دمشق وحمص فاصطادوا حُمْر وحشٍ كثيرة، فذبح رجلُ حمارًا وطبخ لحمه، فبقي يومًا يوقد لا ينضُجُ لحمُه ولا يتغيَّر ولا قارب النُّضج، فقام جُنْدي فأخذ الرأس فوجد على أذنه وسمًا، فقرأه، فإذا هُوَ بهرام جور. فلما أتوا أحضروا تلك الأذن إليَّ، فوجدت الوسم ظاهرًا وقد رقّ شعْر الأذُن، وموضع الوسْم أسود، وهو بالقلم الكوفي. وبهرام جور من ملوك الفُرس كان إذا كثُر عليه الوحش وسَمَه وأطْلقه. وحُمر الوحشْ من الحيوانات -[698]-
المعمّرة، وهذا لعلَّه عاش ثمانمائة سنة أو أكثر. انتهى قوله.
وفي ربيع الآخر قدِم القاهرةَ الحاكمُ بأمر الله ومعه ولدُه وجماعة، فأكرمه الملك الظاهر وأنزله بالبُرج الكبير، وهو أحمد بن أبي عليّ القُبّي ابن عليّ ابن أَبِي بَكْر ابن أمير المؤمنين المسترشد بالله ابن المستظهر.
وفيها عزل النجيبي عن الأستاذ دارية ووليها عز الدين أيدمر الظاهري الهاشمي العباسي. اختفى وقتَ أخْذِ بغداد ونجا، ثم خرج منها وفي صُحبته زين الدين صالح بن محمد ابن البنّاء الحاكمي، وأخوه محمد، ونجم الدّين ابن المُشّاء، فقصد حسين بن فلاح أمير بني خفاجة، فأقام عنده مدَّةً، ثم توصل مع العرب إلى دمشق، وأقام عند الأمير عيسى بن مُهنّا والد مُهنّا مدة، فطالع به السُّلطان الملك النّاصر، فأرسل يطلبه، فبغته مجيء التّتار. فلما ملك الملك المظفَّر دمشق سيّر أمير قِلِيج البغدادي إلى ناحية العراق وأمره بتطلُّب الحاكم، فاجتمع به وبايعه على الخلافة، وتوجه فِي خدمته الأمير عيسى والأمير علي بن صقر ابن مخلول، وعمر بن مخلول، وسائر آل فضل، سوى أولاد حُذيفة. فافتتح الحاكم بالعرب عانَةَ، والحديثة، وهيت، والأنبار، وضرب مع القراوول رأسًا بقرب بغداد فِي أواخر سنة ثمانٍ وخمسين، فانتصر عليهم، وقُتل من التّتار خلْقٌ، ولم يُقتل من أصحابه غير ستة، فيقال، والله أعلم: قُتِل من التّتار نحو ألفٍ وخمسمائة فارس، منهم ثمانية أمراء. فجاء جيش للتتار عليهم قرابُغا، فرد المسلمون على حَمِية، فتبِعهم قُرابُغا إلى هيت ورد. وأقام الحاكم عند ابن مُهنَّا، فكاتَبه علاءُ الدين طيْبرس نائب دمشق يومئذٍ للملك الظاهر يستدعيه، فقدِم دمشقَ فِي صَفَر فبعثه إلى السُّلطان، فِي خدمته الثلاثة الذين خرجوا معه من بغداد.
وكان المستنصر بالله قد تقدمه بثلاثة أيام إلى القاهرة، فما رَأَى أن يدخل على إثره خَوفًا من أن يُمسك، فهرب راجلًا وصُحْبته الزَّين صالح البناّء، وقصدا دمشق، ودلهما بدويٌّ من عرب غَزِية، فاختفيا بالعُقَيبة، وحصّلا ما يركبان، وقصدا سَلَمِية، وصحبَهما جماعةٌ أتراك، فوجدوا أهل سَلَمِيَة -[699]-
متحصنين خوفًا من الأمير آقُش البرلي، فوقع بينهم مناوشة من حرب، ونجا الحاكم وصاحبه، وقصد البرلي فقبل البرلي يده، وبايعه هُوَ وكل من بحلب، وتوجهوا إلى حَران، فبايعه الشَّيْخ شهاب الدين عَبْد الحليم ابن تيْميّة والد شيخنا وأهل حَران. وجمع البرلي للحاكم جمعًا كثيرًا نحو الألف فارس من التُّركمان، وقصدوا عانَةَ، فوافاهم الخليفةُ المستنصر، فأعمل الحيلة، وأفسد التُّركمان على الحاكم، ودخل الحاكم فِي طاعته وانقاد له، ووقع الاتفاق. فلما عُدم المستنصر فِي الوقعة المذكورة فِي ترجمته قصد الحاكم الرَّحبة، وجاء إلى عيسى بن مُهنّا، فكاتَبَ الملك الظاهر فِيهِ، فطلبه، فقدِم إلى القاهرة، فبايعوه وامتدت أيامه، وكانت خلافته نيِّفاّ وأربعين سنة.
قال أَبُو شامة: وفيها جاء الخبر بالتقاء التَّتر الذين بالموصل بعسكر البرلي، وجرت بينهم وقعةٌ قُتل فيها مقتلة عظيمة، وقُتِل عَلَمُ الدّين سنْجر المعروف بجكم الأشرفيّ، وابنه، وبكتوت الحّرانيّ.
قال: وفيها وُلّي ولاية دمشق ونظر الجامع والمساجد الأمير الافتخار الحراني؛ وكان شيخًا كبيرًا خيرًا، ألزم أهل الأسواق بالصلاة وعاقب عليها، ومنع جماعة من الأئمة الاستنابة، ورجع على بعضهم بما تناولهم منهم التاج الشحرور، والجمال الموقاني، والشمس ابن غانم، والشمس ابن عَبْد السلام. ونقَّص كثيرًا من جامكياتهم المقرَّرة.
وأما أولاد صاحب الموصل فلما فارقوا المستنصر فِي العام الماضي أقاموا بسَنْجار، وكتب كبيرهم الملك الصالح إلى الموصل يستشير أهلَها، فأشاروا عليه بالمجيء، فقدِم عليهم فِي العشرين من ذي الحجّة ومعه ثلاثمائة فارس، وكان في الموصل أربعمائة فارس، فدخلها، وترك إخوته بسَنْجار. فلما بلغهم قتْل المستنصر ونزول التّتار على الموصل لحصار أخيهم رجعوا، فأعطاهم الملك الظاهر أخبازًا، وأعطى الملك المجاهد إِسْحَاق مبلغًا من المال لخاصه، ولعلاء الدّين مبلغًا لخاصّه. -[700]-
وأما التّتار فنازلوا الموصل ومعهم صاحب ماردين، ونصبوا عليها المجانيق وضايقوها، ولم يكن بها سلاح ولا قوُتٌ كثير، فَغَلا السِّعر، واستنجد الملك الصالح بالبرلي، فَنَجَده من حلب، فسار إلى سنْجار، فعزمت التّتار على الهرب، فوصل إليهم الكلب الزَّين الحافظي وأخبرهم بأن البرلي في طائفةٍ قليلة، وشجّعهم، فسارت إليه التّتار وهم فِي عشرة آلاف، والبرلي فِي ألفٍ من التّركمان والعرب، فتوقّف في لقائهم، ثمّ برز إليهم فِي رابع عشر جُمادى الآخرة، فكسروه وقُتل جماعةٌ من وجوه أصحابه، وانهزم جريحًا، وأُسر طائفة من أصحابه بعد أنْ أبْلوا بلاءً حسنًا. ووصل البرلي إلى البيرة، ففارقه أكثر من معه، وقصدوا الدّيار المصريّة.
وجاءت رُسُل من هولاكو إلى البرلي يطلبه إليه، فلم يُجِبه إلى ذلك، وكاتب الملك الظاهر فأمنه، فسار إلى مصر، فأعطاه السُّلطان إمريَّة سبعين فارسًا، وخلع عليه.
وأمّا التّتار فأخذوا الأسرى فأدخلوهم من النقوب إلى الموصل ليُعرِّفوهم بكسرة البرلي. واستمرَّ الحصار إلى شعبان من سنة ستين، ثم طلبوا ولد الملك الصالح، فأخرجه إليهم، ثم خلوه أيامًا، وكاتبوه بأن يسلم الموصل وهددوه، فجمع الأكابر وشاورهم، فأشاروا عليه بالخروج فقال: تُقْتلون لا محالة. فصمموا على الخروج، فخرج إليهم يوم نصف شعبان وقد ودع الناس، ولبس البياض، فلما وصل إليهم رسَّموا عليه.
وكان الحصار قد طال جدًا، وعلى سور البلد ثلاثون منجنيقًا ترمي العدو وعلى المغول سنداغو، وقد خندقوا على نفوسهم، وبالغوا فِي الحصار، حتى كلَّ الفريقان. ثم سلمت الموصل، ونوديَ فِي الموصل بالأمان فأطمأن الناس، فشرع التّتار فِي خراب السور. فلما طمنوا الناس دخلوا البلد وبذلوا السيف تسعة أيام إلى أوائل رمضان. ووسّطوا علاء الملك ولد الملك الصالح، وعلَّقوه على باب الجسر، ثم رحلوا فِي آخر شوال بالصالح فقتلوه في الطّريق رحمه الله.
وأما علاء الدين والملك المجاهد فاستقلوا أمراء بمصر.
وأما ابن صاحب الروم عز الدين فإنه اختل أمره وضايقته التَّتر، فقصد الأشكري وسأله العوْن فقال: إن تنصَّرتَ أعنْتُك. فهمَّ أن يفعل لينال غرضه من -[701]-
النصر على أخيه بالتَّنصُّر، فلامه أصحابه وقالوا: هذا ينفر عنك قلوبَ العسكر. فأمسك، وتغير خاطرُ الأشكري عليه وحَبَسه بقلعة فأغارت طائفة من عسكر بركة على بعض بلاد الأشكري، وحاصروا تلك القلعة، فوقع الاتفاق على أنه إنْ سلَّم إليهم السُّلطان عز الدين رحلوا. فسلمه إليهم، فانطلقوا به إلى الملك بركة.
ووقع الخُلْف بين هولاكو وبركة، وأظهر بركة عداوته، وبعث الرُّسُل إلى الملك الظاهر بالمواددة واجتماع الكلمة، ويحرضه على حرب هولاكو، ثم جرى بينهما مصاف، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وفي شوال قدِم الدمياطي الأمير والرُّكني علاء الدين الأعمى الَّذِي صار بالقدس، فقبضا على نائب دمشق طيبرس الوزيري، وحُمل إلى مصر، وباشر الرُّكنيّ النيابة إلى أن قدِم النجيبي.
وفي ذي الحجة وصل إلى دمشق من التّتار نحو المائتين هاربين إلى المسلمين، فأُعْطوا أخبازًا. وهم أوَّل من قفز من التّتار ودخل في الإسلام.
وقُتل العماد القزويني، أحدُ الحكام بالعراق، لخيانته. وأُخذ متولي واسط مجد الدين صالح بن هُذَيْل وعذِّب وصودِر، وسُلِّمتْ واسط إلى الملك منوجهر ابن صاحب همذان، فسار واستصحب معه فخر الدّين مظفَّر ابن الطّرّاح فجعله نائبه في تدبيرها.
وقُتل فِي العام الآتي شِحْنة بغداد بهادر. وكان مسلمًا سائسًا لا بأس بسيرته. وكان يُصلِّي التّراويح، ووُلّي بعده قرابوقا شِحْنة.
وفي " تاريخ المؤيَّد " قال: وفيها فِي ربيع الآخر، أعني سنة تسع وخمسين وستمائة، وردت الأخبار أنّ سبْع جزائر فِي البحر خُسف بها وبأهلها، ولبس أهل عكّا السّواد وبكوا وتابوا.
وفي آخر يوم من سنة ستين أثبتوا نَسَبَ الحاكم العباسي، وبويع بالخلافة بعد جمعة. -[702]-
وفي سنة ستين تحزبت نصارى الروم وحشدوا، وأخذوا مدينة القُسْطنطينية من الفرنج. وكان الفرنج قد استولوا عليها من سنة ستمائة. أرّخ ذلك الملك المؤيّد.