استهلت وما للناس خليفة، وصاحب مكة الشريف أبو نميّ الحَسَنيّ وعمّه، وصاحب المدينة عزّ الدّين جماز بن شِيحَة الحَسَينيّ، وصاحب مصر الملك الظاهر رُكن الدين بيْبَرس الصّالحي، وصاحب دمشق الملك المجاهد عَلَم الدين سنْجَر الحلبي، وصاحب الموصل الملك الصالح إِسْمَاعِيل بن لؤلؤ، وصاحب الجزيرة أخوه المجاهد إِسْحَاق، وصاحب ماردين المظفَّر قُرا -[692]-
رسلان ابن السعيد، وصاحب الرُّوم رُكْن الدين قليج رسلان ابن غياث الدّين كيخسْرُوا ابن علاء الدين وأخوه عز الدين كيكاوس، وصاحب الكَرَك والشَّوبَك المغيث عمر ابن العادل ابن الكامل، وصاحب حماة المنصور محمد ابن المظفَّر، وصاحب حمص والرَّحبة وتدْمُر الأشرف مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن شيركوه، والمستولي على حصون الإسماعيليّة الثمانية رضيّ الدّين أبو المعالي ابن نجم الدّين إسماعيل ابن الشْعرانيّ، وصاحب مَرّاكُش المرتَضَى عُمَر بن إِبْرَاهِيم بن يوسف، وصاحب تونس أَبُو عَبْد الله مُحَمَّد بن يحيى بن أبي محمد ابن الشَّيْخ أَبِي حفص عُمَر بن يحيى، وصاحب اليمن الملك المظفَّر يوسف ابن الملك المنصور، وصاحب ظَفَار مُوسَى بن إدريس الحضْرميّ وصاحب دلة ناصر الدّين محمود ابن شمس الدين أيتمش، وصاحب كرْمان تُرْكان خاتون زَوْجَة الحاجب بُراق وابنا أخي بُراق، وصاحب شِيراز وفارس أبو بكر ابن أتابك سعد، وصاحب خُراسان، والعراق، وأذْربيْجان، وغير ذلك: هولاكو بن قاءان بن جنكزخان، وصاحب دشت القفجاق وتلك الدّيار بركة ابن عمّ هولاكو.
وقعة حمص
وكانت فِي خامس المحرم. اجتمع عددُ من التّتار الذين نجوْا من عين جالوت، والذين كانوا بِحَرّان والجزيرة. وكانوا قد هلكوا من القَحْط فأغاروا على حلب، وقتلوا أهلها بقرنبيا، ثم ساقوا إلى حمص لما علِموا بقتْلة الملك المظفَّر، وأن العساكر مختلفة، فوجدوا على حمص الأمير حسامَ الدين الجوكنْدار ومعه العسكر الذين كانوا بحلب، والملك المنصور صاحب حماه، والملك الأشرف صاحب حمص، وعدّتهم ألف وأربعمائة، فحملوا على التّتار وهم فِي ستة آلاف فارس حملة صادقةً فكسروهم وركبوا أقفِيَتهم قتْلًا حتى أتى القتل على مُعظَمهم، وهرب مقدمهم بيْدرا فِي نفرٍ يسير بأسوأ حال.
وكانت الوقعة عند تُربة خَالِد بن الوليد رضي الله عَنْهُ. وتُسمَّى وقعة -[693]-
حمص " القيقان "، لأن غير واحد حدث أنه رَأَى قِيقانًا عظيمة قد نزلتْ وقت المصاف على التّتار تضرب فِي وجوههم، وحكى بدر الدّين محمد ابن عز الدين حَسَن القيْمُرِيّ، وكان صدوقًا، قال: كنت مع صاحب حماه فوالله لقد رَأَيْت بعيني طيورًا بيضاء وهي تضرب فِي وجوه التّتار يومئذٍ. نقله عَنْهُ الجَزَريّ فِي " تاريخه ".
وقال أَبُو شامة: جاء الخبر بأن التّتار كُسِروا بأرض حمص كسرةً عظيمة وضُربت البشائر، وكانت الوقعة عند قبر خَالِد إلى قريب الرَّسْتَن، وذلك يوم الجمعة خامس المحرَّم، وقُتل منهم فوق الألف، ولم يُقتَل من المسلمين سوى رجلٍِ واحد. ثُم جاءت رؤوسهم إلى دمشق.
قلت: حكى أَبِي أنهم جابوها في شرائج، وكنّا نتعجّب من كبر تلك الرؤوس لأنّها رؤوس المُغْل.
قال أَبُو شامة: وجاء الخبر بنزول التّتار على حماه فِي نصف الشهر، فقدِم صاحب حماه وصاحب حمص فِي طلب النَّجدة والاجتماع على قتالهم، فنزل الملك المجاهد عَلَم الدين عن سلطنة دمشق.
قلت: بل اتفقوا على خلْع الحلبي، وحصروه بالقلعة، وجرى بينهم شيءٌ من قتال، وخرج إليهم وقاتلهم، ثم رجع إلى القلعة. فلما رَأَى الغَلَبة خرج فِي الليل بعد أيام من دمشق من باب سرٍّ قريبٍ من باب توما، وقصد بعْلَبَكّ، فعصى فِي قلعتها، وبقي قليلًا، فقدِم علاء الدين طيْبرس الوزيري وأمسك الحلبيّ في قلعة بعلبك، وقيّده وسيّره إلى مصر.
وفيها، فِي أواخر المحرَّم، وقع على دمشق ثلج عظيم لم يُعهَد، فبقي يومين وليلتين، وبقي على الأسطحة أعلى من ذراع، ثم رُمي وبقي كأنه جبال فِي الأزِقّة وتضرر الخلقُ به. وذلك فِي أوّل كانون الأصمّ.
وأما التّتار فقال قُطْبُ الدين أبقاه الله: ولما عاد مَنْ نجا مِن التّتار إلى -[694]-
حلب أخرجوا من فيها، ثم نادوا: كل من كان من أهل البلد فلْيعتزل. فاختلط على الناس أمرهم ولم يفهموا المُراد، فاعتزل بعضُ الغُرباء مع أهل حلب، فلما تميز الفريقان أخذوا الغُرباء وذهبوا بهم إلى ناحية بابلا فضربوا رقابهم، وكان فيهم جماعة من أقارب الملك النّاصر رحمهم الله. ثم عدوا من بقي، وسلموا كل طائفة إلى رجلٍ كبيرٍ ضمَّنوه إيَّاهم. ثُم أحاطوا بالبلد أربعة أشهر، فلم يدخلها أحدٌ ولا خرج منها أحدٌ، فَغَلتْ الأسعار وهلكوا، وتعثروا، وبلغ رِطْل اللحم سبعةَ عشَرَ درهمًا، ورطْل السَّمك ثلاثين درهمًا، ورطل اللبَن خمسة عشر درهمًا، ورطل السكر خمسين درهما، وأُكِلَت الميتات.
وأمّا الجوكنْدار فدخل مصر ثمّ عاد إلى حلب.
وفي سابع صَفَر ركب السُّلطان الملك الظاهر في دسْت السّلطنة من قعلة الجبلَ وهو أوّل ركوبه. قال قُطْبُ الدين: وكتب إلى الأمراء يحرضهم على القبض على الحلبي، فخرجوا عن دمشق ونابَذُوه وفيهم علاء الدين البُنْدُقْدار، يعني أستاذ الملك الظاهر، وبهاء الدين بُغدي فتبعهم الحلبيُّ وحاربهم، فحملوا عليه فهزموه، ودخل القلعة فأغلقها فِي حادي عشر صَفَر. ثُم خرج من القلعة تلك الليلة، وأتى بعْلَبَكّ فِي عشرين مملوكًا. واستولى البُنْدُقْدار على دمشق، وناب فيها عن الملك الظاهر، وجهز لمحاصرة بعْلبَكّ بدر الدين ابن رحال، فحال وصوله دخل بعْلبَكّ وراسل الحلبي، ثم تقرر نزوله ورواحه إلى خدمة الملك الظاهر، فخرج من القلعة على بغْلة، وسار فأدخِل على الملك الظاهر ليلًا، فقام إليه واعتنقه وأكرمه، وعاتبه عتابًا لطيفًا، ثمّ خلع عليه ورسمَ له بخيْل ورخت.
قلت: ثم حبسه.
وقال أَبُو شامة: ثم رجعت التّتار، فنزل صاحب صهيون وتخطَّف -[695]-
منهم جماعة، وقتلت الفداويّة الخشِيشيّة صاحبَ سِيس، لَعَنَه الله. ووقع السيف بين التّتر وبين ابن صاحب سيس.
وفيها درس القاضي نجم الدين ابن سِني الدولة بالعادلية وعُزِل الكمال التَّفْليسيّ، واعتقل بسبب الحياصة النّاصرية التي تسلّمها التّتار. وكانت رهنًا بمخزن للأيتام على المال الذي اقترضه الملك النّاصر.
قال: وفيه، يعني ربيع الأول، خرج الفِرَنج في تسعمائة قنطاريّة، وخمسمائة تركُبُليّ، ونحو ثلاثة آلاف رَاجِل، فأُخذ الجميع قتْلًا وأسْرًا، ولم يفْلت منهم سوى واحدٍ.
قلت: انتدب لقتالهم الغاجريّة التُّركُمان، فأخْلَوا لهم بيوتهم وهربوا، وكمنوا لهم، ثم نزلوا عليهم وبيتوهم، وأراح الله منهم. وكان خروجهم من عكّا وصيدا.
وفي جمادي الأولى عُقِد العزاء بجامع دمشق للملك النّاصر. جاء الخبر بأنّه ضُربت رَقَبتُه مع جماعةٍ لما بلغهم أن المصريّين كسروهم على عين جالوت.
وفيه ورد دمشق أولاد صاحب الموصل، وهما صاحب الجزيرة يومئذٍ وصاحب الموصل بعيالهم وأموالهم، ومعه طائفة من أهل البلاد، فمضوا إلى مصر. ثُم رجعوا فِي أواخر السنة مع السّلطان، ومضوا إلى بلادهم.
وفي رجب أقيم فِي الخلافة بمصر المستنصر بالله أَحْمَد، ثم قدِم دمشقَ هُوَ والسُّلطان، فعمِلت لقدومها القِباب، واحتفل الناس لزينتها. وعُدِم فِي الشرق فِي آخر العام كما فِي ترجمته.
وفي ذي الحجة عُزِل عن قضاء الشّام نجم الدين ابن سَنيّ الدولة، ووُليّ شمس الدين ابن خلِّكان الَّذِي كان نائب الحُكْم بالقاهرة، ثم وكل بالمعزول وأُلزم السَفر إلى مصر. قال أبو شامة: كان جائرًا، فاجرًا، ظالمًا، وشاع عَنْهُ أنه أُودع كيسًا فِيهِ ألف دينار، فرد بدله كيسًا فِيهِ فلوس. وفُوِّضَ إلى ابن خلِّكان -[696]-
نظر الأوقاف وتدريس سبع مدارس كانت بيد المعزول: العادلية، والعذْراويّة، والنّاصرية، والفَلَكيّة، والرُّكْنيّة، والإقباليّة، والبَهنَسيّة.
وفي نصف ذي الحجة رجع السُّلطان إلى مصر.
وفيها أقام الأمير شمس الدين أقوش البرلي المُسمَّى برلو بحلب خليفةً، ولَقَّبه بالحاكم بأمر الله، وخطب له، ونقش اسمه على الدراهم، فلما قدِم السُّلطان الشّام تزلزل أمرُه، وطلب العراق، ثم اجتمع بالإمام المستنصر بالله، ودخل في طاعة المستنصر.
وفي آخرها وقع المصافُّ بين المستنصر وبين التّتار بالعراق، فعُدِم المستنصر، وقُتِل عددٌ من أصحابه وهرب الحاكم فِي جماعةٍ وسلِم. وممن عُدِم فيها كمال الدّين ابن السّنجاريّ، ويحيى ابن العُمريّ، وعبد الملك ابن عساكر. وقد ذكرنا الوقعة فِي ترجمة المستنصر.
واستعمل السُّلطان على حلب الأمير عَلَم الدين سنْجّر الحلبيّ، وبعث معه عسكرًا لمحاربة برلو، وكان قد غلب على حلب. فلما قرُب الحلبي قصد البرلي الرَّقّة، ودخل الحلبي حلب، وجهز عسكرًا وراء البرلي، فادركوه بالبرية فقال: أَنَا مملوك السُّلطان. وخدعهم. ثم وصل إلى حَران، ثم أتى البيرة فتسلمها، وقوي أمره، وقصد حلب. فقفز إليه جماعة من عسكر حلب، فخاف الحلبي وهرب، فدخل البرلي حلب. فلما بلغ السُّلطان خرج من مصر بالجيش، ثم جهز علاء الدين أيْدكين البُنْدُقْدار نائبًا على حلب ومُحاربًا للبرلي، فسَار من دمشق فِي نصف ذي القعدة، فخرج البرلي عن حلب، وقصد قلعة القرادي وحاصرها، وأخذها من التّتار ونهبها.
وفيها كاتَبَ الملك المغيث صاحب الكَرَك الملك الظّاهر يستعطفه فرضيَ عنه.
وفي شوال وُلّي قضاء مصر برهان الدين السَّنجاريّ، وعُزل تاج الدين ابن بِنْت الأعز.
وفي شوّال تزوّج بيليك الخَزْندار الظاهري ببنت صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، فأعطاه السّلطان الصُّبيْبَة، وبانياس. -[697]-
وقدِم على السُّلطان وهو بدمشق الملك الأشرف صاحب حمص، فخلع عليه وأعطاه ثمانين ألف درهم، وزاده تلَّ باشر.
وفي ذي الحجة سار الرشيدي فِي عسكرٍ إلى أرض أنطاكية فأغار عليها.
قال قُطْب الدّين: وفي رمضان وقع الصُّلح بين التّتار وبين الملك المظفَّر ابن السعيد صاحب ماردين، فتوجه إليهم ومعه هدية سَنِيّة من جُملتها باطية مجوهرة قيمتها أربعة وثمانون ألف دينار، فأكرموه، ثم قتلوا أصحابه، وكانوا سبعين نفسا بلا ذَنْب ولا جُرْم، بل أرادوا قص جناحه.
وفي رمضان وقع المصافّ بين الأخوين رُكْن الدين صاحب الروم، وأخيه عز الدين بقُرب قُونية، فانتصر رُكْن الدين لأنه كان معه نجدة من التتر، وقُتِل من عسكر عز الدين خلْق، وأُسِر جماعة فشُنقوا. وأقام عزّ الدّين بأنطاكية.