-سنة سبع وخمسين وستمائة

فِي أولها سار الملك النّاصر متَّبِعًا آثار البحريَّة، فاندفعوا بين يديه إلى الكَرَك، فنزل بركة زيزا، وعزم على حصار الكَرَك وفي خدمته صاحب حماه الملك المنصور، فجاءت إليه رُسُل المغيث مع الدار القُطْبيّة، وهي ابنة الملك الأفضل قُطُب الدين ابن العادل يضرعون إليه في الرّضا عن المغيث، فَشَرطَ عليه أنْ يقبض على مَن عنده من البحرية، فأجاب ونفَّذهم إليه على الجِمال، فبعثهم إلى قلعة حلب فحُبِسوا بها، وأما رُكْن الدين البُنْدقْداري فهرب من الكَرَك فِي جماعةٍ، وقدِم على الملك النّاصر، فاحسن إليهم وصَفَح عنهم، ورجع وفي خدمته البُنْدُقْداري.

وفيها نزل هولاكو على آمِد، وبعث رُسُلَه إلى صاحب ماردين الملك السعيد نجم الدين يطلبه، فسيَّر إليه ولده الملك المظفَّر فِي خدمته سابق الدين بَلَبَان، والقاضي مهذب الدين مُحَمَّد بن مجلي، ومعهم تقادُم، واعتذر بالمرض فوافق وصولهم إليه أخْذه لقلعة اليمانيَّة وإنزاله منها حريمَ الملك الكامل صاحب ميَّافارقين، وولدَه الملك النّاصر يوسف ابن الكامل، والملكَ السعيد عُمَر، وابن أخيه الملك الأشرف أحمد، والملك الصّالح أيّوب ابن الملك المشمّر ابن تاج الملوك عليّ ابن العادل، فلما رآهم ابن صاحب ماردين جزع وأدى الرسالة فقيل له: ليس مرضه بصحيح وإنما هُوَ متمارض محافظة للملك النّاصر صاحب الشّام، فإن انتصرتُ عليه اعتذَرَ إليَّ بزيادة المرض، وإن انتصر عليَّ بقيتْ له يدٌ بيضاء عند النّاصر، فلو كان -[678]-

للناصر قوةٌ يدفعني لما مكنني من دخول هذه البلاد، وقد بَلَغَنِي أنه بعث حريمه وحريم أُمرائه وكُبراء رعَّيته إلى مصر، ولو نزل صاحبكم إليَّ رعيتُ له ذلك، ثم أمر بردّ القاضي وحده، فعاد واخبر مخدومه بصورة الحال، فتألم على إرساله ولده، وبعث رسولًا إلى الملك النّاصر يستحثه على الحركة، ويعرفه أنه مَتَى وصل إلى حلب قدِم إليه برجاله وأمواله، وسيَّر فِي الظاهر إلى هولاكو بهديَّة، وفي الباطن إلى ولده يحرضه على الهروب، وسير إلى صاحبي الروم عز الدين ورُكْن الدين يُنكر عليهما كونهما فِي خدمة هولاكو، ويقول: إنْ بَقَّى عليكما فإنما ذلك ليُغْر الملك النّاصر، فأعمِلا الحيلة فِي الانفصال عَنْهُ، والحذر منه.

وفي أواخر السنة وقعت الأراجيف بحركة التّتار نحو الشّام فانجفل الخلق.

وفي آخرها قبض الأمير سيف الدين قُطُز المُعِزيّ على ابن أستاذه الملك المنصور على ابن المُعزّ، وتسلطن ولُقِّب بالملك المظفر، وسبب ذلك قدوم الصاحب كمال الدين ابن العديم رسولًا يطلب النجدة على التّتار، فجمع قُطُز الأمراء‍َ والأعيان، فحضر الشَّيخ عزّ الدّين ابن عَبْد السلام والقاضي بدر الدين السَّنّجاريّ، وجلس الملك المنصور فِي دسْت السلطنة، فاعتمدوا على ما يقوله الشَّيْخ عز الدين، فكان خُلاصته: إذا طرق العدو البلادَ وَجَبَ على العالم كلهم قتالُهُم، وجاز أن يؤخذ من الرّعيَّة ما يُستعان به على جهادهم، بشرط أن لا يبقى فِي بيت المال شيء، وأن تبيعوا ما لكم من الحوائص والآلات، ويقتصر كلٌّ منكم على فَرَسه وسلاحه، ويتساووا فِي ذلك هُمْ والعامَّة. وأما أخْذ أموال العامة مع بقاء ما فِي أيدي الجُنْد من الأموال والآلات الفاخرة فلا، ثمّ بعد أيام يسيرة قبض على المنصور وقال: هذا صبي والوقْتُ صعْب، ولا بد من أن يقوم رجلٌ شجاع ينتصب للجهاد.

وكان الأميران عَلَم الدين الغتمي وسيف الدين بهادر المُعزّيَّيْن حين جرى هذا المجلس غائبين لرمي البُنْدق، فاغتنم قُطُز غيبتهما وتسلطن، فلما حضرا قبض عليهما، وسيَّر القاضي برهان الدين السَّنْجاريّ مع ابن العديم إلى الشام يعِد النّاصر بالنّجدة. -[679]-

وبرز الملك النّاصر والعساكر فنزلوا على بَرْزَة شمالي دمشق، واجتمع له عسكر كبير وتُركمان وأتراك وعجم ومطوعة، ثم رَأَى تخاذُل عسكره وأنَّه لا طاقة له بالتّتار لكثرتهم فخاف وجبُن، وكان قد صادر الناس وجبى الأموال وما نفع.

وفيها عبر هولاكو بجيشٍ عظيم الفُرات بعد أن استولى على حران، والرُّها، والجزيرة، وأول من عدّى الفرات أشموط بن هولاكو فِي ذي الحجة، فجاء الخبر من البيرة إلى حلب والنائب بها الملك المعظّم تورانشاه، فجفل الناس منها، وعظُم الخَطْب، وعم البلاء، وكانت حلب فِي غاية الحصانة وحُسْن الأسوار المنيعة وقلعتها كذلك وأبلغ، فلما كان فِي العَشْر الأخير من ذي الحجة قصدت التّتار حلب ونزلوا على حيلان وتلك النّاحية، ثم بعثوا طائفة من عسكرهم فأشرفوا على المدينة، فخرج إليهم عسكر حلب ومعهم خَلْقٌ من المطوعة، فساروا فرأوا التّتار، فلما تحققوا كثْرتهم كروا راجعين، وأمر نائب حلب أن لا يخرج بعد ذلك أحد، وكتب يستحث الملك النّاصر فِي الكشف عَنْهُمْ، فلما كان من الغد رحل التّتار عن منزلتهم ونازلوا حلب، واجتمع عسكر البلد بالبواشير وإلى ميدان الحصا، وأخذوا فِي إجالة الرأي، فأشار عليهم نائب السلطنة أن لا يخرجوا، فلم يوافقه العسكر، وخرجوا ومعهم العوام والشُّطّار، واجتمعوا بجبل بانقوسا، ووصل جمع التّتر إلى ذيل الجبل، فحمل عليهم جماعة من العسكر فانهزم التّتر مكيدة، فتبعوهم ساعة، ثمّ كرت التّتار عليهم، فهربوا إلى إصحابهم، ثم انهزم الجميع لما رأوا التّتار مُقبلين، فركبت التّتار ظهورهم يقتلون فيهم. وقُتل يومئذٍ الأمير عَلَم الدّين زُرَيق العزيزيّ ونازلت التّتار البلد ذلك اليوم، ثم رحلوا عَنْهَا طالبين إعزاز، فتسلَّموها بالأمان.

وخرجت السنة والناسَ فِي أمرٍ عظيم من الخوف والجلاء والحيْرة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015