-سنة سبع وأربعين وستمائة

فيها رجع السلطان إلى مصر مريضا في محفة، واستعمل على نيابة دمشق الأمير جمال الدين ابن يغمور.

وفيها ولدت امْرَأَة ببغداد ابنين وبنتين فِي جوف، وشاع ذاك فطُلِبوا إلى دار الخلافة، فأُحضروا وقد مات واحدٌ فأُحضر ميتًا، فتعجّبوا. وأُعطيت الأمّ من الثّياب والحُليّ ما يبلغ ألف دينار، وكانت فقيرةً مستورة.

وفيها توجه الناصر داود إلى حلب.

وجاء كتاب السّلطان نجم الدّين إلى ابن يغمور بخراب دار سامة، وقطْع شجر بستان القصر الّذي للنّاصر دَاوُد بالقابون، وخراب القصر، ففعل ذلك.

وفيها مضى الأمجد حسن ابن النّاصر من الكَرَك إلى مصر، وسلَّم الكَرَك إلى السّلطان، وخبث عَلَى أَبِيهِ وخانه. فأعطاه السّلطان جملة، وأخرج من الكَرَك عيال المعظَّم وأولاده وبناته، وبعث إليهم بأموالٍ وتُحَفٍ يُرْضيهم بِهَا.

وأمّا سعد الدّين فقال فِي " تاريخه ": وصل كتاب الظاهر ابن الناصر إلى السلطان بأن يسلم الكرك، ويعطيه السلطان خبزا بمصر. ففرح السّلطان بذلك، وأنفذ أستاذ داره جمال الدّين آقوش النجيبي ليتسلّمها. فلمّا قدِم الملك الظّاهر أمر السّلطان بتلقيه واحترمه، ودفع له أبسوك، ومائتي فارس، وخمسين ألف دينار، وثلاثمائة قطعة قماش ثم الذّخائر الّتي بالكَرَك. وأعطى لأخيه الأمجد إخميم، ومائةً وخمسين فارسًا، ثُمَّ بعث خزانةً إلى الكَرَك مَعَ مُجير الدّين بْن أَبِي زكري مبلغها مائتا ألف دينار. -[363]-

وفيها هجمت الفرنج دِمياط، وأحاطت بِهَا فِي ربيع الأول، وكان عليها فخر الدين ابن الشَّيْخ والعساكر، فخرجوا عَنْهَا، وخرج أهلها منها من الجهة الأخرى. وملكتها الفرنج صفْوًا عَفْوًا بلا قتال ولا كلفة، بل مجرّد خذْلانٍ نزل، فلا حول ولا قوّة إلّا بالله.

وهذا من أغرب ما تمّ فِي الوجود حتّى إنّ الفرنج اعتقدوا أنّ المسلمين فعلوا هذا مكيدةً. ثم بان لهم الأمر، وابتلى الله العسكَر بالعدوّ وذَهاب أموالهم. فقيل: سبب هروبهم أنّهم بطّقوا مرّةً بعد أخرى إلى السّلطان ليكشف فما جاء خبر، وكان قد سقاه الطّبيب دواء مخدّرًا، وأوصى بأن لا يُزعج ولا ينبَّه، فكتموه الخبر، فوقع إرجاف فِي دِمياط بموته، ونزل بهم الخذْلان.

وكان الملك الصّالح نجم الدّين أيّوب عَلَى المنصورة نازلًا، فغضب كيف يسيّبها أهلها؟ وشنق من أَعيان أهلها ستّين رجلًا. ولّما أمر بشنقهم قَالُوا: ما ذَنْبُنا إذا كانت عساكره وأمراؤه هربوا وأحرقوا الزَّرَدْخاناه، فأيش نعمل نَحْنُ؟ وقامت القيامة عَلَى العسكر، وخرج أهل دِمياط حُفاةً عُراة جياعًا فقراء حَيَارى بالحريم والأطفال، قد سَلِم لهم بعض ما يعيشون بِهِ، فنهبهم المسلمون فِي الطّريق! وأمّا العسكر فاستوحشوا من السّلطان ودعوا بهلاكه.

قال أبو المظفر: بلغني أنّ مماليكه أرادوا قتله، فقال لهم فخر الدين ابن الشَّيْخ: اصبروا عَلَيْهِ فهو عَلَى شَفَا. فمات ليلة نصف شعبان وهو عَلَى المنصورة.

وكانت أمّ خليل زوجته معه، وهي المدبّرة لأموره أيّام مرضه، فلم تغيرّ شيئًا، بل الدِّهليز بحاله، والسماط يمد كل يوم، والأمراء يجيؤون للخدمة، وهي تَقُولُ: السّلطان مريض، ما يصل إليه أحد. فبعثوا إلى الملك المعظَّم تورانشاه ولده، وهو بحصن كيفا، الفارس أقطاي أكبر مماليك أَبِيهِ، فسلك عَلَى البرّيّة وكاد يهلك عطشًا، وأسرع بِهِ أقطاي، فقدِم دمشق فِي آخر رمضان، وخلع عَلَى أمراء دمشق وأحسن إليهم. -[364]-

قَالَ أَبُو المظفّر: بلغني أنّه وجد فِي دمشق ثلاثمائة ألف دينار فأنفقها، واستدعى من الكَرَك مالًا فأنفقه. وأمر فخر الدين ابن الشَّيْخ الأمراء فحلفوا للمعظّم. وأخفوا موت السّلطان

وكانت أمّ خليل تعلّم عَلَى التّواقيع عَلَى هيئة خطّ السّلطان. وقيل: بل كَانَ يعلّم عَلَى التّواقيع خادمٌ يشبه خطُّه خطَّ السّلطان، يقال له: السهيلي.

قال: وكان قد نسر مخرجه وامتدّ إلى فخذه، وعمل عَلَيْهِ جَسَده، وهو يتجلدّ ولا يُطْلِعُ أحدًا عَلَى حاله حتى هلك.

وكان المسلمون مرابطين بالمنصورة مدّة أشهر، وجرت لهم مَعَ الفرنج فصول طويلة ينال هَؤُلاءِ من هَؤُلاءِ، وهَؤُلاءِ من هَؤُلاءِ، فمنها وقعة عُظمى يوم مُستهلّ رمضان استشهد فيها جماعة من كبار المسلمين.

ونزلت الفرنج بقرب المنصورة، وكانت وقعة المنصورة الوقعة التي اشتهرت في ذي القعدة على المنصورة، وذلك أن الفرنج ساقوا ووصلوا إلى دهليز السلطان، فخرج مقدم العساكر فخر الدين ابن الشيخ، فقاتل فقتل فانهزم المسلمون، ثمّ تناخوا وكرّوا عَلَى الفرنج فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وكان الفتح.

ووصل المعظّم إلى مصر بعد أن أقام بدمشق سبعة وعشرين يومًا، فدخل الدّيار المصّرية فِي ذي الحجّة بعد الوقعة. وكان فِي عزمه الفتْك بابن الشَّيْخ؛ لأنّه بلغه أنّه يريد الملك والناس يريدونه، فقتل.

وقال ابن السّاعي: فِي أوّل السّنة أخذت الفرنج دِمياط، نزلوا عليها، فأرسل الصّالح نجم الدّين عسكرًا نجدة لمن بِهَا، وكان مريضًا، فكسروا الفرنج. ثُمَّ ظهرت الفرنج عليهم، فانتخى أميران وهما: ابن شيخ الإِسْلَام، والجولانيّ، فحملا عليهم، فاستشهد ابن شيخ الإِسْلَام، وسَلِمَ الْجَوْلانيّ، وغُلِّقت أبواب دِمياط، وأرسلوا بطاقة. وكان السّلطان قد سُقِيَ دواء مخدّرًا، وأمرهم الطّبيب أن لا ينبّهوه، فوقعت البطاقة فكتمها الخادم، ثُمَّ وقعت أخرى -[365]-

فلم يردّ عليهم جواب، والسّلطان لا يعلم بشيء.

فقيل فِي دِمياط: إنّ السّلطان مات، فضعُفت النّفوس، وعزم أهل دِمياط عَلَى الهرب، فاحرقوا بابًا وخرجوا، فأخذ العسكر فِي ردّهم فلم يلتفتوا، فعاد العسكر ونهب البلد. فخرج أهل البلد عَن آخرهم، وهلك خلقٌ فِي زحمة الأبواب. وأخلوا البلد، فأخذه الفرنج بلا كلفة.

فلمّا علم السّلطان غضب وهَمّ بقتل ذَلِكَ العسكر الّذين نهبوا دِمياط، ثُمَّ صلب منهم نيفاً وثمانين أميرا، وغيرهم تُرْك، وأمر أن لا تُضرب النّوبة إلا للجولاني وحده.

قَالَ: وفيها قتل شيحة أمير المدينة، وكان قد خرج عَن المدينة فِي نفرٍ يسير فوقع عَلَيْهِ قوم من العرب بينه وبينهم دمٌ فحاربوه، فقُتِل وسلبوه، وكان موصوفًا بالخير والتواضع، وولي مكانه ولده الأكبر عيسى.

قَالَ: وفي نصف ذي الحجّة سعى علي الإربليّ السّاعي من دَقُوقا إلى بغداد فوصل بُعَيْد العصر، فأنعم عَلَيْهِ الأمير مبارك بما قيمته عشرة آلاف دينار.

وفيها جاء سَيْلٌ عظيم عَلَى السّلامية من عمل الموصل، فأهلك خلقاً، وأتلف الزروع، وهدم الأسواق، وغرق كثيرا من المواشي، وغرقت السّلامية كلّها، وكان بِهَا أكثر من ثلاثة آلاف نفس.

وجاءت الزّيادة عَلَى جزيرة ابن عُمَر حتّى كادت تدخل من شراريف سور البلد، وكان أمراً مهولاً.

وفيها كُتِبت فُتْيا ببغداد: هَل الإِيمَان يزيد وينقُص؟ فامتنع الفقهاء من الجواب خوفًا من الفتنة، وكتب فيها الكمال عليّ بْن وضّاح والمحدّث عَبْد العزيز القحيطيّ وبالغا فِي ذمّ مَن يَقْولُ: لا يزيد ولا ينقص.

فأخذ الفُتيا بعضُ الحنفيّة، وعرضها عَلَى الدّيوان العزيز، وقال: قد تعرّض لسبّ أَبِي حنيفة. فأُمر بإخراج ابن وضّاح من المستنصريّة وبنفْي القحيطيّ.

وفيها وصل إلى بغداد أَبُو منصور الإصبهانيّ، رجل كهل، صغير الخلقة جدا، طوله ثلاثة أشبار وثلاثة أصابع، ولحيته طولها أكثر من شبر، فحُمِل إلى -[366]-

دار الخلافة، فأُنعم عَلَيْهِ، ودار عَلَى الأكابر.

وفيها قتلت التتار بخانقين خلقًا عظيمًا من النّزال ونهبوا أغنامهم وأبقارهم، ثُمَّ نهبوا ناحية البَتّ والرّاذان وأخربوا تِلْكَ النّواحي، فخرج من بغداد عسكر لذلك. وأُمر النّاس فِي جُمادى الآخرة بالمبيت فِي أسواق بغداد وفي دروبها وبالوقيد.

وفيها سار عسكر حلب فالتقوا بالمواصلة بنصِيبين، فانهزمت المواصِلَة واستولى الحلبيّون عَلَى خيامهم، وتسلّموا نصيبين، ودارا، وقرقيسيا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015