لمّا نزلت الخُوارزمية بأراضي غزّة - كما تقدَّم - طال مُقامهم، وبعث إليهم الصّالح نجم الدّين النّفقة والخِلَع والخيل، وأمدّهم بجيشٍ من عنده، وأمرهم أن ينازلوا دمشق. فاتّفق الصّالح إِسْمَاعِيل، والنّاصر دَاوُد، والمنصور إِبْرَاهِيم صاحب حمص، وفرنج السّاحل الّذين أعطاهم إِسْمَاعِيل الشّقيف وصفد وغير ذَلِكَ. وعذّب إِسْمَاعِيل والي الشّقيف لكونه تمنّع مِن تسليم الشّقيف، وسار بنفسه إلى الشّقيف وسلّمها إلى الفرنج.
قَالَ الرّاوي: فخرج الملك المنصور بعسكر دمشق مَعَ الفرنج، وجهّز النّاصر داود عسكره من نابلس مع الظهير بن سنقر والوزيريّ.
قَالَ أَبُو المظفّر: وكنت يومئذٍ بالقدس، فاجتمعوا عَلَى يافا. وكان المصريّون والخَوارزميّة عَلَى غزّة، وسار الملك المنصور والعسكر تحت صلبان الفرنج وراياتهم، والقِسّيسون فِي الأَطْلاب يصلّبون ويقسقسون، وبيدهم كاسات الخمر يسقون الفرنج.
فأقبلت الخَوارزميّة والمصريّون، فكانت الوقعة بين عسقلان وغزّة، وكانت الفرنج في الميمنة، وعسكر الناصر في الميسرة، والملك المنصور في القلب. وكان يوماً مشهوداً. التقوا فانكسرت الميسرة وأُسر الظهير بن سنقر، وانهزم الوزيري، ونهبت خزانة الظهير. ثمّ انهزم الملك المنصور، وأحاطت الخَوارزميّة بالفرنج. وكان عسكر المصريّين قد انهزموا أيضًا إلى قريب العريش.
وكان عدد الفرنج يومئذٍ ألفًا وخمسمائة فارس وعشرة آلاف راجل، وما كانت إلّا ساعة حتّى حصدهم الخَوارزميّون بالسّيوف، وأسروا منهم ثمانمائة. -[348]-
قال أبو المظفر: فذهبت ثاني يوم إلى موضع المصافّ، فوجدتهم يعدّون القتلى، فقالوا: هُم زيادة عَلَى ثلاثين ألفًا. وبعث الخوارزميون بالأسارى وبالرؤوس إلى مصر. ووصل المنصور فِي نفرٍ يسير، ونهبت خزانته وخيله، وقتِل أصحابه. وجعل يبكي ويقول: قد علمت أنّا لمّا سرنا تحت صلبان الفرنج أننا لا نفلح.
ثم جهز الملك الصالح معين الدين ابن الشَّيْخ فِي العساكر لحصار دمشق، ودخلت الأسارى القاهرة ومُلِئت الحبوس بهم، وخُذِل الصّالح إِسْمَاعِيل وأخذ يتهيأ للحصار، وخرب أرباعاً عظيمة حول البلد، والله المستعان.
وفيها ورد كتاب بدر الدّين صاحب الموصل يَقُولُ فِيهِ: إنّني قررت عَلَى أهل الشّام قطيعةً فِي كلّ سنة عشرة دراهم عَلَى الغنيّ، وعلى الوسط خمسة دراهم، وعلى الفقير درهم. وقرأ القاضي محيي الدين ابن الزّكيّ الكتاب عَلَى النّاس وشرعوا فِي الجباية.
قلت: أظنّ هذا مصالحة عَنْهُمْ للتّتار؛ فإنّ سعد الدّين ذكر فِي " تاريخه " أنّ فِي آخر سنة إحدى وأربعين وصل رسول قاآن إلى صاحب ميافارقين وطلب الدّخول فِي طاعته، وأن فِي المحرّم سنة اثنتين جهز صاحب ميافارقين رسل التتار بهدية عظيمة. وأن فِي أواخر المحرَّم أخذت التّتار خلاط وعبروا إلى بدليس، فأتيت مَعَ الملك المظفّر إلى حصن كيفا.
ثمَّ نفذ إلى ميّافارقين جهّز أمّه وزوجته وما خفّ معهما من جواهر ومصاغ، فطلعوا إلى حصن كيفا عند المعظّم ولد الملك الصالح. وطلب المظفّر ولده الملك السّعيد، وكان شابًّا مليحًا، شجاعًا، كريمًا، فقال: تعود إلى ميّافارقين وتجمع الناس والعسكر لقتال التتر، وأنا فأمضي إلى مصر أو إلى بغداد لجمع الجيوش واستنفار النّاس. فأبى وقال: ما أفارق خدمة السّلطان. فضربه ابن عمّه بسِكّين قتله وقتلوه بعده فِي الحال.
ثمّ سار المظفَّر - وأنا معه - إلى نصيبين ثم إلى ماكسين، وأخذنا عَلَى بلاد الخابور. ثمّ سرنا إلى عانة، ثم عدنا إلى -[349]-
الجانب الغربيّ، فوصلتنا إقامةُ الخليفة. وجاء الخبر أنّ التّتار وصلوا إلى سنجار. وجاءنا رسول من بغداد معه جوسخاناه، وروايا وقرَب برسم طريق مصر، فعدنا إلى عانة.
وجاءتنا الكتب برحيل التّتار عَن البلادَ؛ لأنّ الطّبق وقع فِي حوافرَ خيلهم، فجئنا إلى مشهد عليّ، ثمّ سرنا إلى أن وصلنا حران، ثم إلى ميافارقين.
وفيها فِي ثالث صفر خرج الأعيان إلى ملتقى أمّ الخليفة وقد رفعوا الغرز، والمدرّسون والقضاة، وقد رفعوا الطَّرحات وجعلوا عددهم حمرًا. وخرج ثاني يوم أستاذ دار الخلافة مؤيّد الدّين مُحَمَّد ابن العلقميّ بالقميص والبقيار والغرزة، متقلّدًا سيفًا ووراءه ثلاثة أسياف، وتوجّهوا إلى زريران، فكان أحدهم يحضر إلى زعيم الحاجّ مجاهد الدّين الدُّوَيدار فيسلّم، وقد نُصب هناك سُرادق عظيم.
فيأتي أحدهم ويقبل الأرض على باب السرادق، فيخرج الأمير كافور ويقول: قد عُرِف حضورك. فلمّا قرُب ابن العلقميّ نزل ولبس بقيارًا بلا غرزة، وغيرَّ عدّة مركوبه فجعلها حمراء، وقصد السُّرادق ومعه زعيم الحاجّ، ثمّ قبّل الأرض، فخرج إِلَيْهِ كافور فتشكّر لَهُ. ثمّ أُحضرت شَبّارة بمَشْرَعَة زريران فنزلت فيها والدة الخليفة، قَالَ: وخُلِع عَلَى الدُّوَيدار وأُنعم عَلَيْهِ بخمسة عشر ألف دينار.
وفي ربيع الأوّل ولي وزارة العراق مؤيّد الدين محمد ابن العلقمي بعد موت ابن الناقد الوزير. ثمّ ولي الأستاذ داريّة الصّاحب محيي الدين يوسف ابن الجوزي.
وفي ذي الحجّة وقعت بطاقة ببغداد أنّ التتار- خذلهم الله - دخلوا -[350]-
شهرزور، وهرب صاحبها فَلَك الدّين مُحَمَّد بْن سنقر إلى بعض القلاع، وأنّهم قتلوا وفسقوا وبدعوا. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي أواخر السنة شرعوا- أعني المصريّين والخوارزميّة- فِي حصار دمشق، وعلى العساكر معين الدّين ابن الشيخ.