استهلَّت والتتارُ فِي هذه السّنين بأيديهم من الخطا إلى قريب العراق وإربِل، وغاراتهم تُبَدِّع كلَّ وقتٍ، والنّاسُ منهم فِي رعبٍ، وراسلهم إلى الآن المستنصر بالله ثلاث مرات.
وأمّا الخوارزميّه فزالت دولتهم، وتمزَّقوا، وقُطشت أذنابُهم، وبقوا حراميّة، يقتلون ويسبون الحريم، ويفعلون كلَّ قبيحٍ.
وفيها قَدِمَ الملكُ الجواد مُلتجئًا إلى السلطان الملك الصّالح أيّوب، فخافَ منه الصّالح، ونوى أن يُمسكه، فردَّ الجواد من الرمل والتجأ إلى الملك الناصر بالكرك.
وفيها قدم كمال الدين ابن شيخ الشّيوخ فِي جيشٍ من المصريّين، فنزل غزَّة. فجهّز النّاصر عسكره مَعَ الجواد، فالتقَوْا، فكسرهم الجواد وأخذ كمالُ الدّين ابن الشيخ أسيرا، وأحضر إلى بين يدي النّاصر دَاوُد، فوبَّخَه، فقال الجواد: لا توبخه. ثم بعد قليلٍ تخيل النّاصر من الجوادِ فأمسَكه، وبَعثَ بِهِ إلى بغداد تحت الحَوْطَةِ، فلمّا نزل بنواحي الأزرق عرفه بطنٌ من العرب، -[30]- فأطلقوه، فالتجأ إلى الملك الصّالح صاحب دمشق. ثمّ لم يثُبت، وقصدَ الفرِنج، وبقيَ معهم مدّة. ثمّ رجع إلى دمشق فحبسه الصّالح بحصن عزّتا، وهلك فِي سنة إحدى وأربعين.
وفيها شرع الصّالح صاحبُ مصر فِي عِمارة المدرسة بين القصرين، وفي عِمارة قلعة الجزيرة، وأخذ أملاك النّاس، وخرَّب نيِّفًا وثلاثين مسجدًا، وقطع ألف نخلةٍ، وغرم عَلَى هذه القلعة دَخْلَ مصر عدّة سنين. ثمّ أخربها غلِمانُهُ فِي سنة إحدى وخمسين وستمائة.
وفيها تخلَّص الوزيرُ صفيّ الدّين إِبْرَاهِيم بْن مرزوق مِنْ حَبْسِ حمْص بعد أن بقي بِهِ عدّة سنين. وكان الملك الجوادُ وصاحب حِمْص قد تعصَّبا عَلَيْهِ وأخذا منه أموالًا عظيمة، فيقال: أخذا أربعمائة ألف درهمٍ.
وفيها دخل الشيخ عز الدين ابن عَبْد السّلام الشّافعيّ إلى ديارِ مصر، وأقبل عَلَيْهِ السلطان إقبالًا عظيمًا، وولَّاه الخطابة والقضاء، فعزل نفسه من القضاء مرتين وانقطع.
وفيها دخل بايجو وطائفةٌ من التّتار فِي بلادِ الروم فعاثوا، وسفكوا، وهرب منهم السّلطان غياث الدّين وضَعُف عن الملتقى.
وفيها وَلِيَ تدريس النظاميّة نجم الدّين عَبْد الله ابن البادَرائيّ مدرّس مدرسة الْإمَام النّاصر، وخُلِعَ عَلَيْهِ بطرحةٍ.
وفيها أغارَتِ الخَوارزميّة ونَهَبَتْ وسَبَتْ نَصِيبينَ ورأسَ عين ودُنَيْسَر، وقتلوا عددًا كبيرًا من المسلمين. ثمّ طلبوا الصُّلح مَعَ المظفَّر غازي، فحَلَّف لهم وحَلَّفوا لَهُ، ومقدّمهم الكبيُر هُوَ بركة خان، وهم نحو خمسةِ آلاف فارس. ودونَ بركة خان فِي الرُّتبة اختيارُ الدّين بردي خان، وقد كانَ أمير حاجب السّلطان جلال الدّين، وهو شيخٌ داهيةٌ، لَهُ رأيٌ ورواءٌ، ودونه صارو خان، شحنة الجمال التّي لجلال الدّين خوارَزْم شاه؛ وهو شيخٌ بطينٌ أبْلَهُ، ثمّ كشلوخان تربية جلال الدّين؛ شابٌ عاقلٌ، وابنُ أختِ جلال الدّين، وبهادر، وبكجري، وتبلو، وغيرهم من الأمراء. وهذا بركة خان، شابٌ مليح أوّل ما طرَّ شاربُه. فتزوّج الملكُ المظفَّر بابنةِ عمّ بركة خان، وتسلّطت الخَوارَزميّة عَلَى بلادِ الجزيرة، وبالغوا فِي العيثِ والفسادِ، وخرَّبوا أعمال الموصل حتى -[31]- أُبيعَ الثَّورُ بأربعَة دراهمَ، وقِنطارُ الحديِد بدرهمين ثلاثة، والحمارُ بثلاثَة دراهم، لكثرة الشيء ولكونه حرامًا؛ قَالَ سعد الدّين هذا كلَّه، وقال: فِي رمضان نفوا الحريريّة من ميافارقين - وأنا بها - لكثرة إفسادهم أولاد النّاس.