فِي صفر خرج الملك الصّالح عماد الدّين إِسْمَاعِيل من بَعْلَبَكَّ وقد تهيّأت لَهُ الأمور كما يريد، وذلك بترتيب وزيره الأمين الطّبيب السَّامرِيّ، بَعَث إلى -[23]- دمشق الأموالَ والخِلَع ففُرِّقت. ثمّ خَرَجَ من بَعْلَبَكَّ بالفارس والراجل عَلَى أنّه متوجّه إلى نجدة ابن أخيه نجم الدّين أيّوب، إلى نابُلُسَ من طريق بانياس، فباتَ بالمَجْدَل. وسَّرحَ بطاقةً إلى نجم الدّين بأنّه واصلٌ إِلَيْهِ، وساق بسحرٍ وقَصَدَ دمشق، فوصلَ إلى عقبةَ دُمَّر، ووقف. فجاءه صاحبُ حمص أسدُ الدّين من جهة مَنين، وقصدوا باب الفراديس وهجموا البلد. فنزل الصّالحُ فِي داره بدرب الشَّعَّارين، ونزلَ أسدُ الدّين بدارِه تجاه العزيزة. ثمّ أصبحوا من الغد - يوم الأربعاء - فزحفوا عَلَى القلعة، ونقبوها من عنْد باب الفَرَج - وكان بها الملكُ المغيث عمر ابن الملك الصّالح نجم الدّين - وكان الصّالحُ عمادُ الدّين يكاتب ابن أخيه ويَعِدُه بالمجيء، وسيَّر إِلَيْهِ يطلب منه ولده ليصل إلى بَعْلَبَكَّ كي يُقيم عِوَضَه فِي بَعْلَبَكَّ، فبعَثَ بِهِ إليه. وكان عز الدّين أيبك صاحب صَرْخَدَ قد كاتب الصّالح عماد الدّين واتَّفق معه. ثمّ إنّ الصّالح عماد الدّين ملك القلعة بالأمان، ثمّ نكثَ وقَبَضَ عَلَى المغيث عُمَر، وحبسه فِي برجٍ. وخَرِبَت لذلك دارُ الحديث الأشرفيّة ودورٌ وحوانيتُ من شأن الحصارِ، ونصبَ عَلَى القلعة سبعة مجانيقَ، وأخذوا فِي النقوب، ثمّ أخذت بالأمان. وبلغ نجم الدّين ما جرى، فسير عمَّيْه مجير الدّين وتقيّ الدّين، وأيدكين وألتميش وأنفق فيهم وقال: سوقوا إلى دمشق قبل أن تؤخذ القلعةُ، فساقوا، فبلغهم أخذ القلعة، فمالوا عن نجم الدّين خوفًا عَلَى أهليهم وأسبابهم، وانضمُّوا إلى الصّالح عماد الدّين، وتمَّ لَهُ الدَّسْت. وبقيّ الصّالح نجمُ الدّين فِي مماليكه وجاريته أُمّ خليل، فطَمِعَ فِيهِ أهلُ الغور والقبائل.
واتّفق عودُ الملك النّاصر من مصر عن غير رِضى، فأخبروه بما تمَّ، فأرسل عسكره، فأحاطوا بالملك الصّالح نجم الدّين وحملوه عَلَى بغلة بلا مهماز، وأحضروه إلى النّاصر، فاعتقله مكرَّمًا بالكَرَك سبعة أشهرٍ. فطلب الملكُ العادل أخاه نجم الدّين من الملك الناصر، وبذل فِيهِ مائة ألف دينار. وطلبه أيضًا عمُّه الملك الصّالح وصاحبُ حمص، فما أجابهم النّاصر. وأتَّفق معه عَلَى أيمانٍ وعهود، ثمّ خرج بِهِ، وقصدَ مصرَ. فلمّا بلغ الملوك إخراجُه تألَّموا من النّاصر وعادَوْهُ. واختلفت عَلَى الملك العادلِ ولدِ الكاملِ عساكرُهُ، وكاتبوا الملكَ الصّالح أخاه يسألونه الإسراعَ، فوصل إلى بِلْبِيس فِي أواخر ذي القِعْدة، وبها منصوبٌ مخَيمُ الملكِ العادل، فنزلَ بِهِ. -[24]-
وذكر أَبُو عَبْد اللَّه الْجَزَريّ وغيره، قصَّة نجم الدّين أيّوب، قَالَ: بقي فِي غلمانه وطَمَع فِيهِ أهلُ الغور والعُشران، وكان مقدَّمَّهم شيخٌ جاهل يقال لَهُ: تُبَل البَيْسانيّ، فما زالوا وراءه وهو يحمِلُ فيهم، وأخذوا بعض ثِقْلِه، ثمّ نزل عَلَى سَبَسْطِية. وكان الوزيريّ قد عادَ إلى نابُلُسَ، فارسل إِلَيْهِ يَقُولُ: قد مضى وما زالت الملوك كذا، وقد جئت مستجيرًا بابن عمّي. ونزل فِي الدّار التّي للنّاصر بنابُلُس. ثمّ كُتُب الوزيريّ إلى النّاصر يخبره الخبر. فبعث الناصر عماد الدين ابن موسك، والظهير ابن سُنْقُر الحَلَبيّ فِي ثلاث مائة فارس، فركب الصّالح نجم الدّين فتلقّاهم، فقالوا: طَيِّبْ قلبَكَ، إلى بيِتكَ جئتَ. فقال: لَا ينظر ابن عمّي إلى ما فعلت وقد استجرت بِهِ. فقالوا: قد جارَكَ وما عليكَ بأسٌ. وأقاموا أيّامًا نازلين حولَه، فلمّا كَانَ فِي بعض اللّيالي صرخ بوقُ النّفير، وقيل: جاءت الفِرنجُ. فرَكِبَ النّاسُ والعساكُر ومماليكُ الصّالح وساقوا إلى سَبَسْطية. ثمّ جاءَ ابن موسَك وابن سُنْقُر إِلَيْهِ، فدخل ابن سُنْقُر إِلَيْهِ، وقال: تطلُعُ إلى الكَرَكِ إلى ابن عمّك، وأخذ سيفَه.
قال أبو المظفر ابن الجوزيّ: فبلَغني أنّ جاريته كانت حاملًا فأسقطت، وأخذوه إلى الكَرَكِ، فحدَّثني بالقاهرة سنة تسعٍ وثلاثين قَالَ: أخذوني عَلَى بغلةٍ بلا مهمازٍ ولا مقرعةٍ، وساروا بي ثلاثة أيّام، واللهِ ما كلَّمتُ أحدًا منهم كلمةً، وأقمت بالكَرَكِ أشهرًا، ورسموا عَلَى الباب ثمانين رجلًا. وحكى لي أشياء من هذه الواقعة.
ثمّ إنّ الوزيري أطلع خزانته وخيلَه وحواصلَه إلى الصَّلْتِ، وبَقِيَتْ حاشيتُه بنابُلُسَ، ووصل علاء الدين ابن النابُلُسيّ من مصر من عند الملكِ العادلِ إلى النّاصرِ يطلُبُ الصّالح، ويُعطيه مائة ألف دينار، فما أجابَ. فلمّا طالَ مقامُه، استشارَ عماد الدين ابن موُسَك وابنَ قلِيج، ثمّ أخرجه، وتحالفا واتَّفقا فِي عيِد الفِطْر. فحدَّثني الصّالح، قَالَ: -[25]- حَلَّفني الناصر عَلَى أشياء ما يَقْدِرُ عليها ملوكُ الأرض، وهو أن آخذَ لَهُ دمشقَ وحمص وحماة وحلب أو الجزيرة والمَوْصِل وديارَ بكرٍ ونصف ديار مصر وأُعطيه نصفَ ما فِي الخزائن من المال والجواهر والخيل والثياب، فحلفت لَهُ من تحتِ القهر والسّيف.
قَالَ: وبَرَزَ العادلُ إلى بِلْبيسَ يقصِدُ الشّامَ، فاختلف عَلَيْهِ العسكرُ وقَبَضُوه، وأرسلوا إلى الصّالح نجم الدّين يُعَرَّفونه ويحثُّونه عَلى المجيء، فسار ومعه الناصرُ وابنُ موسك وجماعة أمراء فقدموا بِلْبِيسَ، فنزل الصّالحُ فِي مخيَّم أخيه، وأخوه معتقلٌ فِي خَرْكاه من المخيّم. وكان محيي الدين يوسف ابن الجوزيّ بمصر وقد خَلَعَ عَلَى الملك العادلِ، وعلى الوزيرِ الفلك المسيريّ من جهةِ الخليفَة.
وحدَّثني الصّالح نجم الدّين قَالَ: والله ما قصدتُ مجيء الملك النّاصر معي إلّا خِفْتُ أن تكون معمولة عَلِيّ، ومنذُ فارَقنا غزَّة، تغيَّر عَلِيّ، ولا شكَّ، إلا أنَّ بعض أعدائي أطمَعَهُ فِي المُلك، فذكر لي جماعة من مماليكي أنّه تحدَّث معهم فِي قتلي، ولمّا أفرج عنّي نَدِمَ وهمَّ بحبسي ثانيًا، فرميتُ روُحي عَلَى ابن قليج، فقال: ما كَانَ قصدُه إلّا انْ نتوجّه أولًا إلى دمِشقَ فنأخذها، فإذا أخذناها عُدْنا إلى مصر.
قَالَ: فلمّا أتَيْنا بِلْبِيس، شَربَ الناصرُ تلكَ اللّيلة، وشَطَحَ إلى خَرْكاه العادل، فخرج من الخَرْكاه، وقبل الأرض بين يديه فقال لَهُ: كيف رَأَيْت ما أشرتُ عليك ولم تقبلْ منّي؟ فقال: يا خوند التُّوبة. فقال: طيب قلبك، الساعة أطلقك. ثُمَّ جاء فدخل علي الخيمة ووقف، فقلتُ: بسم اللَّه اجلس. قَالَ: ما أجلسُ حتّى تُطلقَ العادلَ، فقلتُ: اقعُدْ - وهو يكرّرُ الحديث - فسكت، ولو أطلقته لضُرِبَتْ رقابُنا كلّنا، قَالَ: فنامَ، فما صدَّقتُ بنومه، وقمتُ باقي الليل، فأخذتُ العادل فِي مِحفَّة ودخلتُ بِهِ القاهرة. ثمّ بَعَثتُ إلى الناصر بعشرين ألف دينارٍ، فردَّها.
وذكر لي الصّالحُ نجمُ الدّين قول النّاصر لَهُ: بُسْ يدي ورِجلي - يعني ليلة بِلْبيس - فقلتُ: ما أظنُّ هذا يَبْدُو منه، هُوَ رجلٌ عاقل. فأقسم بالله أن هذا وقع. -[26]-
وأمّا الصّالح إِسْمَاعِيل، فلمّا استقرَّ بقلعَة دمشق خَطَبَ للعادلِ ابن الكامل صاحب مصر، ثمّ لنفسه. وقَدِمَ عَلَيْهِ عز الدّين أيبك من صرخد.
ثمّ قَوِيَ المرضُ بصاحب حِمصْ فسافر إليها.
وفي ربيع الأوّل رفعَ الشهابُ القوُصيّ إلى الصّالح أنَّه يستخلص الأموالَ من أهل دمشق، فصَفَعَه الصّالحُ وحَبَسَه وحبسَ الوزير تاجَ الدّين ابن الولي الإربلي؛ وزير الصالح أيوب.
وفيها أخذ صاحبُ المَوْصِل بدر الدّين لؤلؤ سِنجْارَ من الملك الجواد بموافقةٍ من أهلها، لسوء سيرة الجوادِ فيهم، فإنّه صادَرَهُم. وخَرَجَ يتصيَّدُ ويحجُّ فِي البرية، فبعثوا إلى بدر الدّين، فجاء وفتحوا لَهُ، فمضى الجوادُ إلى عانة ولم يبقَ لَهُ سواها، ثمّ باعها للخليفة.
وفيها درَّس الرفيع عَبْد العزيز الجيليّ بالشّامية البرانية.
وفيها أُنزِلَ الملكُ الكاملُ من القلعة فِي تابوته إلى ترُبته التي عُمِلتَ لَهُ، وفُتح شبَّاكُها إلى الجامع الأموي.
وفي ربيع الآخر وَلِيَ خطابة دمشق الشَّيْخ عزّ الدّين عَبْد الْعَزِيز بْن عَبْد السَّلَام، فخَطَبَ خطبة عريَّةً من البِدَع، وأزالَ الأعلام المذهَّبة، وأقام عِوَضَها سودًا بأبيض، ولم يؤذِّن قدَّامَه سوى مؤذنٍ واحدٍ. وعُزِل الّذِي قبله وهو أصيل الدين الإسعردي.
وفيها أمرَ الملكُ الصّالح إِسْمَاعِيل خطباء دمشق أن يخطبوا لصاحب الروم معه.
وفيها كانت الزّيادةُ فِي أيّام المشمش، جاء سيلٌ عرم هدم وخرب.
وفيها وَلِيَ قضاء دمشق بعد تدريسه بالشّامية القاضي الرفيع، وكان قاضي بَعْلَبَكَّ فِي أيّام الصالح بها.
وفيها جاء الخبُر إلى بغداد أنّ رجلًا ببخارى يُعرف بأبي الكَرَم لَهُ أتباع، قَالَ لأصحابه: إنيّ قادرٌ عَلَى كسرِ التتار بمن يتبعُني - بقوة اللَّه تعالي - من غير سلاح، فَتبِعَهُ طائفةٌ، ونهضوا عَلَى شحنة البلدِ ومن معه فهربوا، وقَوِيَ أمرُه، وتَبِعَهُ الخَلْق. فبلغ ذلك جرماغون ملك التتار يومئذٍ، فنفَّذ جيشًا وشحنه. فخرج لحربهم أَبُو الكرم فِي ألوفٍ كثيرةٍ بلا سلاح، وتقدَّم أمامهم فأحجم عنهم -[27]- التتارُ إلّا واحدًا، فأقدم ليجرّب، وحَمَلَ عَلَى أَبِي الكَرَم، فقتلَهُ، وشدَّ التتار عَلَى الناس قَتْلًا. ويقال: إنَّ عدة الناس كانوا ستين ألفا.
وقال ابن السَّاعي: فيها رَفَلَ الخلائقُ ببغداد في الخلع في العيد بحيث حرز المخلوعُ عليهم بأكثرَ من ثلاثة عشر ألفًا.
ولم يحج ركبٌ من العراق.
وفي المُحرّمِ حَبَسُوا الحريريَّ بعزَّتا لأجل صبيًّ من قرائب القيمري، حلق رأسه وصحبه.
وفيها قَدِمَ رسولُ الأمير الّذِي ملكَ اليمن نور الدّين عُمَر بْن عَلِيّ بْن رسول التُركمانيّ، إلى الديوان العزيز. وهذا وُلِدَ باليمن وخدَمَ مَعَ صاحبها الملك المسعود أقسيس ابن الكامل، فلمّا مات أقسيس عَلَت همَّةُ هذا، واستولى عَلَى البلادِ وملَكَها، وقطَعَ خطبة الملكِ الكاملِ وطردَ نُوَّابه، وخطب لنفسه، وأرسل يطلب من المستنصر بالله تقليدًا بسلطنة اليمن، وبقي الملك في بنيه باليمن إلى اليوم.
وفي ذي القِعْدة كَانَ الصّالح عمادُ الدّين إِسْمَاعِيل قد قبضَ عَلَى جماعة من أمراء الكاملية، فحبَسَهُم وضيَّق عليهم فماتوا، وهم: أيبك قضيب البان، وبَلَبان الدُّنَيْسريّ، وأيبك الكُرديّ، وبلَبَان المجاهدي، رحمهم الله.
ولم يحُجَّ ركبُ العراقِ فِي هذه السَنينَ للاهتمام بأمر التتار.