فِي أوّلها قبض الملك الجوادُ صاحبُ دمشق على الوزير صفي الدين ابن مرزوق، وأخذ منه أربعمائة ألف درهم، وسُجِنَ بقلعة حِمْص، فبقي ثلاثَ سنين لَا يرى الضَّوء. وقيل: حُبِسَ اثنتي عشرة سنةً، ولكنَّ أسد الدّين شيركوه أظهرَ موته. -[20]-
وفيها تمَّهن الجوادُ وضعُف عن سَلْطَنة دمشق، وقايَضَ الملك الصّالح نجم الدّين أيّوب بْن الكامل بدمشق سنجار وعانة. وكان الجوادُ قد سلَّطَ عَلَى أهل دمشق خادمًا يقال لَهُ: النّاصح، فصادَرَهُم، وضربَ، وعَلَّقَ.
قَالَ أَبُو المظفر ابن الجوزي: ذكر لي سعد الدين مسعود ابن تاج الدّين شيخ الشيوخ قَالَ: خرجنا من القاهرة في ربيع الأول، فودع عماد الدين إخوته فقال لَهُ أخوه فخر الدّين: ما أرى رواحَكَ رأيًا، وربما آذاك الجوادُ. فقال: أَنَا ملَّكْتُه دمشقَ فكيف يُخالفني؟ قَالَ: صَدَقْتَ، أنت فارقته أميرًا، وتعود وقد صار سُلطانًا، فكيفَ يسمحُ بالنّزولِ عن السّلطنة؟ وأمّا إذا أبيتَ، فانزِلْ عَلَى طَبَريَّة وكاتِبْه، فإنْ أجابَ، وإلا فتقيُم مكانك، وتعرِّف العادلَ. فلم يلتفت إلى قول فخر الدّين، وسار.
قَالَ سعد الدّين: فنزلنا المُصَلَّى، وجاءَ الجوادُ فتلقّانا وسارَ معنا، وأنزل عمادَ الدّين فِي القلعةِ. وقَدِمَ أسدُ الدّين شيركُوه من حِمْص، وبعثَ الملك الجواد لعماد الدّين الذّهبَ والخِلَعَ، فما وصلني من رشاشِها مطرٌ مَعَ ملازمتي لعمادِ الدّين في مرضه، فإنه ما خرج من القاهرة إلا في محفةٍ.
ثم إن الجواد رسم عَلَيْهِ فِي الباطن ومنعه الركوب، واجتمع بِهِ وقال: إذا أخذتم منّي دمشق وأعطيتموني الإسكندرية، فلابد لكم من نائب بدمشق فاحسبوني ذَلِكَ النّائب، -[21]- وإلّا فقد نفَّذتُ إلى الصالح نجم الدّين أُسَلِّم إِلَيْهِ دمشق، وأذهب إلى سنجار. فقال: إذا فعلت هذا أصلحت بين الصالح وأخيه العادل، وتبقى أنت بغير شيءٍ. فقام مغضبًا، وقصَّ عَلَى أسد الدّين ما جري، فقال لَهُ: والله لئن اتَّفَقَ الصّالحُ والعادلُ ليتركونا نشحذ فِي المخالي. فجاء أسدُ الدّين إلى عماد الدّين وقال: مصلحةٌ أن تكتب إلى العادل تستنزله عن هذا الأمرِ. فقال: حتّى أروح إلى مقام برزة وأُصلّي صلاة الاستخارَة. فقال: تروح إلى برزة وتهرب إلى بعلبك؟ فغَضبَ من هذا. ثمّ اتّفق شِيركُوه والجوادُ عَلَى قتله. وسافرَ شيركوه إلى حمص، ثمّ بعثَ الجوادُ يَقُولُ: إن شئت أن تركب وتتنزَّه، فاركَبْ فاعتقد أن ذَلِكَ عن رضًى، فَلَبِسَ فَرَجيَّة وبعَثَ إِلَيْهِ بحصانٍ، فلما خَرَجَ من باب الدّار، وقابله النصرانيُّ بيده قصةٌ فاستغاث، فأراد حاجبه أن يأخذها، فقالَ: لَا، لي مع الصاحب شغلٌ. فقال عماد الدين: دعوه، فتقدّم إِلَيْهِ وناوَلَه القصَّة، ثمّ ضَرَبه بسكينٍ عَلَى خاصرته بدَّد مصارينَه، وَوَثَب آخُر فضربه عَلَى ظهره بسكّين، فرُدّ إلى الدّار مَيْتًا. وأخذ الجوادُ جميعَ تَركَتِه، وعَمِلَ محضرًا يتضمَّنُ أنه ما مالأ على قتله، وبعث إلى أبي، فقال: اطلع، فجهز ابن أخيك، فجهزناه وأخرجناه. وكانت له جنازةٌ عظيمةٌ، ودفناه بقاسيون في زاوية الشيخ سعد الدين ابن حمويه. وعاش ستا وخمسين سنة.
وقد كتب مرّةً عَلَى تقويم:
إذا كَانَ حُكْمُ النَّجْمِ لَا شَكَّ َواقعا ... فما سَعْيُنا فِي دَفْعِه بنجيحِ
وإنْ كانَ بالتّدبيرِ يُمكنُ ردُّهُ ... عَلِمْنا بأنَّ الكُلَّ غيرُ صَحيحِ
قَالَ أَبُو المظفَّر: وحبس النصراني أياما وأطلق.
وخرج الجواد عن دمشق فتسلَّمها الملكُ الصّالح، وعَبَر فِي أوّل جُمَادَى الآخرة، والملكُ الجوادُ والملكُ المظفَّر الحمويّ بين يديه يحملان الغاشية بالنَّوبة، فنزل بالقلعة. ثمّ نَدِمَ الجوادُ حيثُ لَا ينفعُه النّدمُ، وطلبَ الأمراء وحلَّف جماعةً، فعَلِمَ الملكُ الصّالح فهمّ أنْ يحرِقَ عَلَيْهِ دارَه، فدخل ابن جرير فِي الصُّلح. وخَرَجَ الجوادُ إلى النَّيْرَب، ووقف الناسُ عَلَى باب النصر يدعونَ عَلَيْهِ ويسمعونه لكونه صادرهم وأساء إليهم. فأرسل إِلَيْهِ الصّالح ليَرُدَّ إلى النّاسِ أموالهم، فما -[22]- التفت، وسافر.
واستوزَرَ الصّالحُ جمالَ الدّين عَلِيّ بْن جرير، وزير الأشرف، فمات بعد أيام.
قلتُ: ثمّ وَلِيَ الوزارة بعده - عَلَى ما ذكر سعد الدّين فِي " جريدته " - تاجُ الدّين ابن الولي الإربلي.
وحصل بدمشق الغلاء، وأبيعت الغرارة بمائتين وعشرين درهما.
وتوجَّه الملكُ الصّالحُ قاصدًا ديارَ مصرَ، وكاتبَ عمَّه عمادَ الدّين إِسْمَاعِيل صاحبَ بَعْلَبَكَّ ليسير إِلَيْهِ، فسارَ الصّالحُ نجمُ الدّين إلى نابُلُسَ، واستولى عَلَى بلاد الناصر دَاوُد فِي شوّال، فسار الناصرُ إلى مصر، وأقام الصّالحُ ينتظر قُدومَ عمِّه الصّالح إِسْمَاعِيل. وكان ولدُ أَبِي الخيش وعسكره عند الملك الصالح، وعمُّه فِي باطن الأمر قد كاتب ولده وناصر الدين ابن يغمور ليحلفان لَهُ الْجُنْد، والأموالُ تُفَرَّقُ بدمشق بدارِ النّجِم ابن سلام، ولم يَكُنْ أحدٌ يَجْسُرُ أن يُعرّف الملك الصّالح لهيبته. وجَبَوْا أسواقَ البَلَد لأجلِ سُوقيّة العسكر، من كلِّ دُكّان عشرة دراهم.
وفي شوَّال سُرِقَ النَّعلُ الّذِي بدار الحديث، فشدَّد أولو الأمر عَلَى القُوّامِ وأهلِ الدّار، فرموه في تراب.
وحدَّثني أَبُو القاسم بْن عِمران عن غير واحدٍ من مشايخ سَبْتَة أنّ الفرِنج استولَوْا عَلَى جميع قُرْطُبَة سنة ستٍّ هذه. وذكر أنّ استيلاءهم عَلَى شرقيِّها كَانَ فِي سنة ثلاثٍ وثلاثين، كما ذكرنا.
قَالَ الأبَّارُ: وفي صفر سنة ستٍ أخذت الفرِنج بَلَنْسِية بعد حصار خمسة أشهر.