فِي المحرَّم دخل بغداد الناصرُ دَاوُد بْن المُعظَّم، وتلقّاه الموكبُ وخُلِعَ عَلَيْهِ قباءٌ أطلس وشربوش، وأمطي فَرَسًا بسَرْجِ ذَهَب، وأُقيمت لَهُ الإقامات.
ولمّا مرَّ بالحِلَّة عَمِلَ لَهُ زعيمُها سماطًا عظيمًا، فقيَلَ: إنّه غَرِمَ عَلَى الدَّعوةِ اثني عشرَ ألفَ دينار، ولمّا أرادَ التوجُّه، خُلِعَ عَلَيْهِ قباءٌ اسود، وفَرَجيَّة ممزج، وعمامةُ قصبٍ كحليةٌ مذهبةٌ، وأُعطي فرسًا بمشدّة حريرٍ، يعنى الحزام الرقبة، وأُعطي علمًا، وخَفْتاتين، وخِيَمًا، وكُراعًا، وآلاتٍ، وعدَّة أرؤس من الخيل، وبُقَجَ قماشٍ، وخمسةً وعشرين ألف دينار، وذلك بعد الصُّلح بينه وبين عمَّيْه الكاملِ والأشرفِ. وأُرسلَ فِي حقّه رسولٌ إلى الكامل، وسافر في رمضان.
وفي ربيع الأول جاءت فرقةٌ من التّتار إلى إرْبل فواقعوا عسكرها فقُتِلَ جماعةٌ من التتار، وقُتِلَ من الأرابِلة نفرٌ يسيرٌ. ثمّ إنّ التتارَ ساقوا إلى المَوْصِل ونهبوا وقَتلوا، فاهتمَّ المستنصر بالله وفرَّقَ الأموالَ والسّلاحَ. فرجعَ التّتارُ ودخلوا الدَّرْبَنْدَ، ورد عسكر بغدادَ وكانَ عليهم جمالُ الدّين قشتمر.
وفيها عُزِلَ أَبُو المعالي بْن مُقبل عن قضاءِ القُضاة، وتدريسِ المُستنصرية. ووَلي التّدريس أَبُو المناقب محمود بْن أَحْمَد الزَّنْجانيّ الشّافعيّ. ثمّ وَلِيَ قضاء القضاة أَبُو الفضل عَبْد الرَّحْمَن ابن اللمغاني.
وفيها وصلَ سراجُ الدّين عَبدُ اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَن الشَّرْمَساحيُّ المالكيُّ إلى بغداد بأهِله، فولي تدريس المالكية بالمستنصرية، وبانت فضائله.
وفيها وَصَلَ إلى بغداد أيضًا شهابُ الدّين أحمد بن يوسف ابن الأنصاري الحلبي الحنفي، وولي تدريس المستنصرية.
وفيها عدَّى الكاملُ والأشرفُ الفرات إلى الشرق، واستعادَ الكاملُ حرَّانَ والرُّها من صاحب الروم، فأخربَ قلعة الرُّها.
ثمّ نَزلَ عَلَى دُنَيْسَر فأخربها. -[14]-
فجاءه كتابُ صاحب المَوْصِل أنَّ التتار قد قطعوا دجلة في مائة طلبٍ، ووصلوا إلى سنجار، فخرج إليهم معين الدين ابن كمال الدين ابن مُهاجر فقتلوه. فردَّ الكاملُ والأشرفُ إلى الشام. فأتت عساكر الروم والخوارزمية إلى ماردين فنزل إليهم صاحبها، وأتوا إلى نَصيبين، فأخربوها، وبدَّعوا، وعَمِلوا فيها أعظَم ممّا فعلَ الكامل بدُنَيْسَر، فلا حولَ ولا قُوَّة إلا بالله.
قَالَ سعدُ الدّين ابن شيخ الشيوخ - وأجازَهُ لنا -: فيها وصلت الأخبارُ من مصر بأنّ فيها وباءً عظيمًا، بحيثُ إنّه مات فِي شهر نيَّفٍ وثلاثون ألف إنسان.
ثمّ ساق كيفيّة حصار الكامل لحرَّان. وقُتِلَ عليها عددٌ من المسلمين. وزَحَفَ عليها الكاملُ والأشرفُ مرّات، وجُرِحَ خلقٌ كثيرٌ. ثمّ أخذها بالأمانِ من نوّاب صاحبِ الروم وأخذَهم فِي القيود، وجرت أمورٌ قبيحةٌ جدا.
وفي رمضان كَانَ الملكُ الكامل بدمشق نازلًا فِي دار صاحب بَعْلبكَّ التي داخلَ بابِ الفَراديس، فأعطي آمريَّة مائة فارس للصّاحب عمادِ الدين عمر ابن الشيخ.
وفي آخر السّنة حَشَدَ صاحبُ الروم وجمعَ ونازلَ حرّان وآمِدَ، وتعثَّرت الرعيّة بينه وبين أولاد العادل، نسألُ اللَّه اللُّطف. ثمّ جَرَت أمورٌ.
وفيها أخذت الفرنجُ - لعَنهم اللَّه - قُرْطُبَة بالسّيف، واستباحوها، فقال لنا أبو حيان: توفي ابن الربيع بإشبيلية بعد استيلاءِ النّصارى عَلَى شرقيّ قُرْطُبَة سنة ثلاثٍ وثلاثين.
وقال ابن الأبَّار: استولَتِ الرومِ عَلَى قُرْطُبَة فِي شوّال سنة ثلاث وثلاثين. -[15]-
قلتُ: هِيَ أكبرُ مدائن الأندلس وما زالت دارَ إسلام من زمِن الوليد بْن عَبْد الملك إلى أن استولت النّصارى الآن عليها بالأمان.