فيها شَرَعَ الملكُ الأشرفُ فِي بناءِ جامع العُقَيْبَة، وكان قبل ذَلِكَ خانًا يقال لَهُ: خان الزّنْجاريّ، فِيهِ الخمورُ والخواطئ، فأنفقَ عَلَيْهِ أموالا كثيرة.
وفيها فِي صفر وَصَلَ إلى الدّيوان العزيز رسولٌ من الأميرِ عمَر بْن رسول أنّه استولى عَلَى بلادِ اليَمَنِ، وأرسلَ تقادم وتُحفًا.
وفيها ختم القرآن عبد الله ابن المستنصر بالله، وهو المستعصمُ الّذِي قتلته التّتار، ختم على مؤدبه أبي المظفر علي ابن النَّيَّار، فعُمِلت دعوةٌ هائلة غرمَ عليها عشرة آلاف دينار، وأعطى ابن النّيّار شيئًا كثيرًا، من ذلك: ألف دينار، وخلعٌ عديدة.
وفيها جلس الوزير نصير الدين ابن النّاقد، واستحضرَ الوُلاة والتّجار والصّيارف، ثمّ فُرشت الأنطاع، وأُفرغَ عليها الدّراهم التي ضُرِبت بأمر المستنصر بالله، فقامَ الوزيرُ والدّولة خدِمةً لرؤيتها، ثمّ قَالَ: قد رسمَ مولانا أميرُ المؤمنين بمعاملتكم بهذه الدّراهم عِوَضًا عن قُراضة الذِّهَب، رِفْقًا بكم، وإنقاذًا لكم من التعّامل بالحرام من الصَّرفِ الرِّبويّ فأعلنوا بالدّعاءِ والطّاعَة.
ثمّ سُعِّرت كلُّ عشرة بدينارٍ إماميّ، وأُديرت بالعراق، فقال الموفّقُ أَبُو المعالي القاسم بْن أَبِي الحديد:
لا عَدِمْنا جَميلَ رأيكَ فينا ... أنْتَ باعدتنا عن التطفيف
ورسمت اللجين حتى ألفنا ... هـ وما كانَ قبلُ بالمألوف -[12]-
ليس للجمع كان منعك للصر ... ف، ولكن للعدل والتعريف
وفي ربيع الأوّل كانت وقعة أهلِ سَبْتَة مَعَ الفِرنج، وذلك أنّ متولّيها اليَنَشْتيّ كَانَ قد بالغ فِي تألُفهم، فكانوا يأتون بالتّجارات، فكثروا إلى الغاية بسَبْتَة بحيث إنّهم صاروا بها أكثر من أهلها، فطمعت الفِرنجُ وراموا تملُّكَ البلدِ، وأعملوا الحيلة.
وكان لأبي الْعَبَّاس اليَنَشْتيّ ابنان؛ أحدهما قائدُ البحر، والآخر قائدُ البرّ.
فخرج قائدُ البرّ نوبةً بجيشه لأخذِ الخراج من القبائل، فعزَمَ الملاعينُ عَلَى أمرهم، ولَبِسُوا أسلحتهم وخرجوا، فطلبوا من سقاءٍ ماءً، فأبى، فقتلوه وشَرَعوا فِي القتال.
وثارَ المسلمون إليهم، والتحم الحربُ، فقتلوا من أهلِ الرَّبَضِ خَلْقًا، وسدَّ أَهْل البلد البابَ فِي وُجوهِهم ورمَوْهم بالنُّشَّابِ من المرامي، وأسرعَ الصَّريخ إلى قائد البرِّ؛ فكرَّ بالجيشِ رَكْضًا، والإفرنجُ قد مَلَكوا الرَّبَضِ، وسدُّوا بابَهُ الواحد، وهم عَلَى أن يغلقوا الثّاني، فحملَ الجيشُ عليهم حملةً صادقة، فدخلوا عَلَيْهِ، فلم يُفْلِت منهم إلّا الشّريدُ، ففرُّوا إلى البحر هاربين، وغَنِمَ المسلمون من الأموال ما لَا يوُصفُ.
فذهبَ المُنهزمون واستنجدوا بالفِرنج، ثمّ أقبلوا فِي هيئةٍ ضخمة من الرجالِ والمراكب وآلاتِ الحصار والمجانيق، ونازلوا سَبْتة، واشتدَّ الأمرُ، فطلبَ المسلمون المُصالحة، فقالوا: لَا نُردُّ حتّى يَغْرَموا لنا جميع ما أُخِذَ لنا فِي العام الماضي.
فأُعطَوا جميعَ ذَلِكَ؛ التزمَ اليَنَشْتيُّ لهم بذلك، وعجَزَ عَنِ البعضِ، فشَرَعَ فِي مُصادرَة العامّة، فتوغَّلت صدورهم عَلَيْهِ، وقال لَهُ الأعيانُ: الرأيُ يا أَبَا الْعَبَّاس أن نصالحَ صاحبَ المغرب، فكأنّه أحسَّ منهم القيامَ عَلَيْهِ فأجاب عَلى كرهٍ، فكاتبوا الرّشيد عَبْد الواحد؛ فبعثَ جيشًا مَعَ وزيره، وفتح أهلُ سَبْتَة لَهُ البلدَ، وأُسِرَ اليَنَشْتيّ هُوَ وابنه الواحد ثمّ قُتِلا بالسُّمِّ بِمَرَّاكِشَ، وهربَ ابنهُ الآخر فِي البحرِ، فما استقرَّ إلّا بعدَنَ.
وأمّا الفرنج فنازلوا عَلَى إثرِ ذلك بلنسية، فأخذوها.