في رَجَب وصل رجل من المغرب وأَخْبَر أنّ بعض بني عبد المؤمن صَعِدَ الجبلَ، وجمع من أمم البربر نحو مائتي ألف، ونزلَ بهم، وهاجم مَرّاكُش وقتل عَمَّهُ، وكان قد ولي الأمرَ دُونه، وقَتلَ من أصحابه نحوًا من خمسة عشر -[656]- ألفًا. وسَيَّر إلى الأندلس يُهدّد ابن هود، فأطاعه بشرط أن لا يكون عنده أحد من المُوَحِّدين إلّا إذا احتاج إليهم للغَزاة.
وفي رجب وصل قزوينيٌّ إلى الشّام فأخبرَ أنّ التّتر خرجوا إلى الخُوارزْميّ، وأنّهم كَسَروه أَقبح كَسْرة. وأنَّ الكفّار الذين كانوا في جُملة عسكره غدروا به، وعادوا إلى أصحابهم، وأنّ المُجَمَعة كلّهم تفرّقوا عنه، وبقي في ضعفةٍ من أَصحابه وهم قليلون لا سبدٌ لهم ولا لَبَد، وهكذا كلُّ مُلك يُؤسَّس على الظُّلم يكون سريع الهَدْم.
وقال ابنُ الأَثير - وهذه السّنة هي آخر كتابه - قال: في أَوّلها وصل التّتارُ من بلاد ما وراء النهر، وقد كانوا يعبرون كلَّ قليل، ينهبون ما يرونه، فالبلاد خاوية على عُرُوشها. فلمّا انهزم جلالُ الدِّين خُوارزم شاه في العام الماضي أرسل مقدّم الإسماعليّة يعرّف التّتار ضَعْف جلالِ الدِّين، فبادرت طائفةً وقصدوا أَذْرَبَيْجَان، فلم يُقْدِم جلال الدِّين على لقائهم، فملكوا مراغة فعاثوا بأَذْرَبَيْجَان، فسار هو إلى آمِد، وتَفَرَّقَ جُنده، فَبَيَّتَه التّتار ليلةً، فنجا وتَفَرَّقَ أصحابُه في كلّ وجه. فقصد طائفةٌ منهم حَرَّان، فأوقع بهم الأمير صواب مُقَدَّم الملك الكامل بحرّان، فقصد طائفة منهم سنجار والمَوْصِل وغير ذلك. وتخطَّفتهم الملوك والرَّعيَّة، وطمعَ فيهم كلّ أحدٍ حَتّى الفلّاحون والأَكراد، وانتقم الله منهم. ودخل التّتار ديار بكر في طلب جلال الدِّين، لا يعلمون أين سلك؟ فسبحانَ مَنْ بَدَّل عِزّهم ذُلًّا، وكَثرتَهم قِلَّة، وأخذت التّتار أسَعَرْدَ بالأمان، ثمّ غَدَرُوا بهم، وبذلُوا فيهم السَّيْفَ. ثمّ ساروا منها إلى مدينة طَنزَة، ففعلُوا فيها كذلك. ثمّ ساروا في البلاد يُخرّبونها إلى أن وصلوا ماردين، وإلى نَصيبين، إلى أن قال: وخرجت هذه السّنة ولم يتحقّق لجلال الدِّين خبر، ولا يُعْلم هَلْ قُتِلَ؟ أو اخْتَفَى؟ والله أعلم.
قلت: وفي المحرَّم وصل الملك مُظَفَّر الدِّين صاحب إربل إلى بغداد، واحتُفِلَ بقدومه، وجلس المستنصر بالله له، وحضر أربابُ الدَّولة كُلُّهم، ورُفِعَ السِّتر عن الشّبّاك، فإذا المستنصِرُ جالس، فقبَّل الجميعُ الأرضَ. ورقي نائب -[657]- الوزارة مؤيَّدُ الدِّين، وأستاذُ الدّار مراقيَ مِن الكرسيّ المنصوب بينَ يدي الشُّبّاك. واستُدْعِي مُظَفَّر الدّين، فطلع، وأشار بيده بالسَّلام على المستنصر، ثمّ قرأ: " {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لكم دينكم} " الآية، فردَّ المستنصِرُ عليه السَّلام، فقبّل الأرضَ عِدَّة مرار، فقال له: إنَّك اليوم لَدَيْنَا مكينٌ أمين في كلام مضمونُه: ثَبَت عندنا إخلاصُك في العبوديَّة. فقبَّل الأرض، وأُذِنَ له في الانكفاء، وأُسْبِلَتِ الْأَستارُ، وأُدْخِلَ حُجْرَة، فَخُلِعَ عَلَيْه فَرجيَّة ممزج، وَمِن تحتها قَباء أطلسُ أسودُ، وعِمامة قصب كُحليَّة بطرز ذهب، وقُلد سيفين محلاّيين بالذّهب، وأمطي فرساً بسرج ذهبٍ، وكُنبوش ومَشَدَّة حرير، ورُفع وراءه سنجقان مذهّبَانِ. ثمّ اجتمع بالخليفة يومًا آخر، وخُلِعَ عليه أيضًا، وأعطى رايات وكوسات وستّين ألف دينار، وخلع على جماعة من أصحابه.
وفيها جُدِّد لمشهد أبي بكر من جامع دمشق إمامٌ راتب.
وفيها كان الغلاء بمصر لنقص النّيل.
وفيها قَدِمَ الملك الأشرف دمشق، وحبس الحريريَّ بقلعة عَزَّتا، وأفتى جماعةٌ بقتله وزندقته، فأحجم السّلطان عن القتل.
وأمر السُّلطانُ بشراء دارِ الأمير قيماز النّجميّ، لتُعْمَل دارَ حديث، فهي الدّار الأشرفيَّة، وأن يكون للشّيخ سبعون درهمًا، وهو الجمالُ أبو موسى ابن الحافظ، فمات أبو موسى قبلَ أن يكمل بناؤها.
وفيها درَّس بالتَّقوية العمادُ الحَرَستانيّ، وبالشّاميَّة الجوّانيَّة ابن الصّلاح. وحضر الملكُ الصَّالح الدَّرسَ؛ وتكلّموا في هذه المدرسة، وأرادوا إبطالها، وقالوا: وهي وقف على الحنفيَّة، وعَمِلُوا محضرًا أنّ سودكين المعروفة به أوّلًا وقَفَها على الحنفيَّة، وشهد ثلاثة بذلك بالاستفاضة، فلم ينهض بذلك.
وفيها صُلِبَ التّاجُ التّكريتيّ الكَحّال؛ لأنّه قتل جماعةً ختلًا في بيته، ودفنهم، ففاحت الرائحةُ، وعدمت امرأةٌ عنده، فصلب، وسمّروه.
ودرَّس بالصّاحِبيَّة - مدرسة ربيعة خاتون - النّاصحُ ابن الحَنْبَليّ، وكان يومًا مشهودًا، حَضَرَت الواقِفَةُ وراءَ الستر.