-سنة سبع وعشرين وستمائة

قال أبو شامة: أُخِذَتْ بَعْلَبَكَّ من الأمجد في ربيع الآخر، ورحل الأشرف إلى الشرق واستعملَ على دمشق أخاه إسماعيل، فلمّا كَانَ في شَوَّال جاءنا الخبرُ: بأنّ السُّلطانَ الملكَ الأشرفَ التقى الخُوارزْميّ - يعني جلال الدِّين - وأنّ الأشرف كسره في أواخر رمضان. وقد كَانَ الخُوارزْميّ استولى على خِلَاطَ، وأخذها من نوّاب الأشرف بعد أنّ أكلوا الْجِيَفَ والكلابَ، وزاد فيهم الوباءُ، وثبتوا ثباتًا لم يُسْمَعْ بمثله، لعلمهم بجور خوارزم شاه، ولم يَقْدر عليها إلّا بمخامرة إسماعيل الإِيوانيّ، تدنَّى إليه، واستوثق منه، ثمّ اطلع الخوارزميّة بالجبال ليلًا، واستباحوها، فإنّا لله. فسار الأشرفُ لحربه، واتّفق هو وصاحب الروم على لِقائه، فَكَسَرَا الخُوارِزْميَّة، ووقع منهم خلقٌ في وادٍ، فهلكوا، -[652]- ونُهبوا، وتُتِّبعوا أيّامًا، وضُرِبَتِ البشائرُ في البلاد.

وقال أبو المظفّر ابن الجوزيّ: أخذ خُوارزم شاه جلالُ الدِّين مدينة خِلاط في جُمَادَى الأولى بعدَ حِصار عشرة أشهر، وكان فيها مجير الدّين ابن العادل؛ وأخوه تقيّ الدِّين؛ وزوجةُ الأشرف بنتُ ملك الكُرْج، فأَسَرَهُمْ جلالُ الدِّين. فأرسل صاحب الروم إلى الأشرف يأمرُه بالمسير، فإنَّه يُنْجِدُه، فشاور أخاه الملك الكامل فقال: نَعَم مصلحة، فجمع جيشَه وسار إلى صاحب الروم، وكان معه أخواه شهابُ الدِّين غازي، والملكُ العزيز عثمان، وابن أخيه الملك الجواد. وجمع ملكُ الروم جيوشهَ أيضًا واجتمعا، والتقاهم الخُوارزْميّ؛ فانكسر كسرةً عظيمة، وأخذ الأشرفُ خِلاطَ، وأرسل إلى الخُوارزْميّ يطلب إخوته، فأرسلهم ولم يرسل المرأة.

قال عبد اللطيف بن يوسُف: كسر اللهُ الخُوارزْميّين بأخفَّ مؤنة بأمرٍ لم يكن في الحساب، فسبحانَ من هَدم ذاك الجبلَ الراسي في لمحة ناظرٍ.

وفيها رجعت رُسُلُ الخليفة من عند جلال الدِّين منكوبريّ ملك الخُوارزْميَّة، وخُلِعَ على رسوله الّذي قدم معهم.

وفيها خرج الموكبُ الشّريف لتلقّي رسول الملك مُحَمَّدِ بن يوسُف بن هود المغربي؛ صُحْبَةَ رسولِ الملك الكامل زعيمِ مصر، فأخبر أن ابن هود استولى على أكثر بلاد المغرب التي بيد بني عبد المؤمن، وأنّه خَطَبَ بها للمستنصر بالله، فحُمد فِعله، وكُتِبَ له منشور متضمّنٌ شكر همّته العالية.

وفيها سيَّر جلالُ الدِّين الخُوارزْميّ إلى المُستنصر، وطلب منه سراويلَ الفُتُوَّة ليتشرَّفَ بذلك؛ فسيّره إليه مع تحفٍ ونِعَم لا تُحْصَى، وفَرَس النّوبة، ففرح بذلك وسُرَّ وقبَّلَ الأرضَ مرّات.

وفيها ملك المَايَرْقي تِلِمْسَان، وخطب فيها للمستنصر بالله.

وأما أمرُ الخُوارِزْميَّة وكَسْرتهم، قال المُوفّقُ: فتح بعضُ الأمراءِ بابَ خِلاط للخُوارزْميَّة في جُمَادَى الآخرة، لا ركونًا إلى دينهم ويمينهم، بل إيثاراً -[653]- للموت على شِدَّة القحط، فدخلوا، وقَتَلُوا، وسَبَوْا، واستحلُّوا سائرَ المحرَّمات، دخلوا نصفَ الّليل فبَقُوا كذلك إلى آخر صبيحته، ثمّ رفعوا السَّيفَ، وشرعوا في المصادراتِ والعذاب. وكانوا يتعمَّدون الفقهاء والأخيارَ بالقتل والتّعذيب أكثر من غيرهم.

وأمّا الكاملُ، فانصرف إلى مصر بغتةً، فضعُف النّاس، وأيقنوا أنّ الخُوارزْميّ إنّ ملك الشّامَ والرومَ عفى آثارَها وأباد سُكانها.

ثمّ اصطلح الأشرفُ وعلاء الدِّين صاحب الروم صلحًا تامًّا بعد عداوةٍ أكيدة، وجيَّشوا الجيوش، والقلوبُ مع ذلك مشحونةٌ خوفًا، ولم يزل على وجلٍ مُفْرط مِن التقاء الجيشين، حَتّى أتاح الله كسرةَ الخُوارزْميّين بأهونِ مؤنة.

فقرأتُ في كتاب بعض الأجناد: إنّا رحلنا من سيواس، وطلبنا منزلةً يقال لها ياصي جُمان في طرف أعمال أَرْزَنْجان، إذ بها عشْب ومياه؛ فلمّا سمع العدوّ بمجيء العسكرين، ساق سَوقًا حثيثًا في ثلاثةِ أيّام، ونزل المَرْجَ المذكورَ وبه جماعة من عسكر، فكبسهم بُكْرَة الرابع والعشرين من رمضان، وضربَ الأشرفُ المَصَافَّ مع الخُوارزْميّ، وقامت الحرب على ساقٍ إلى قُرب الظُّهر، ثمّ نصر الله، وكُسر العدوَّ شرّ كسرة. وكان معه خلْق لا يُحصون. والمَصافّ في اليوم التّاسع والعشرين من رمضان.

قال الموفَّق: ثمّ تواصل النّاس ومعهم السّبي والأخاديد من المماليك والدّواب والأسلحة، والكُلُّ رديء، يباع الجوشنُ بثلاثة دراهم، والفَرَس هناك بخمسة دراهم، وفي حلب بعشرين درهمًا وثلاثين في غاية الرداءة. وكذا قِسيّهم وسائرُ أسلحتهم. ووصل منهم أسرى فيهم رجل، حكى لمن أَنِسَ به من الفقهاء العجم، قال: إنّ صاحبنا دُهِشَ وتحيَّر لَمّا شارف عسكرَ الشّام، فلمّا رأيناه كذلك، انقطعت قلوبُنَا، ولولا عسكرُ الشّام، أبَدْنا عسكرَ الروم، أنا بنفسي قتلت منهم خمسين فارسًا.

وحكى نسيب لنا جنديٌّ، قال: وصلنا إلى مرج ياصي جُمان، ونحن متوجّهون إلى خِلاط على أنّ العدوَّ بها، فإذا بعسكر الخُوارِزْميّ محيطٌ بنا، فوقع على طائفة من عسكر الرّوم، فقتل منهم نحو مائتين، ونهب، وأسر. ثمّ -[654]- من الغد وقع جيشُ الخُوارزْميّ على عسكر الروم ونحن نرى الغبرة، فأباد فيهم قتلًا وأسراً. وقد كثر القول بأنّهم قتلوا من عسكر الروم سبعة آلاف من خيارهم، وقيل: أكثر وأقلّ.

وقال لي رجل من أهل أرزنجان: إنّ جميع الروم كَانَ بها، وعِدَّتُهُم اثنا عشر ألفًا، فلم يَخْلُصْ منهم إلّا جريحٌ، أو هارب توقَّلَ الجبلَ، وإنّ صاحب الروم بقي في ضَعفة من أصحابه نحو خمسة آلاف، وأصبحنا يومَ الخميس على تعبئة، ووقعت مناوشات. فكان أصحابُنا أبدًا يربحون عليهم، وعرفنا قتالَهم، ونشّابهم، وضعْف خيلهم، وقلَّة فُروسيتهم، فتبدَّل خوفُنا منهم بالطَّمع، واحتقرناهم، وتعجبَّنا كيف غلب هؤلاء أُممًا كثيرين؟ وبِتْنَا ليلةَ الجمعة على تعبئة، وكان الرجُل قد عَزَمَ على الهرب، فَفَرَّ إليه مملوكان، فشجّعاه، فثبت لِشقاوته. وأصبح النّاسُ، ففرّ من عنده اثنان إلى الملك الأشرف؛ فسألهما عن عِدَّة أصحابهم، قالا: هم ثلاثون ألفًا. وبقي الأشرف يجولُ بينَ الصُفوف، ويُشجعُ النّاسَ، ويحقر العدوَّ. وأصبح النّاسُ يوم السّبت على تعبئةٍ تامّةٍ، فسأل الأشرف المملوكَيْن عن موضع الخُوارزْميّ، قالا: هو على ذلك التّلِّ، وشَعْرُهُ في كيس أطلس، وعلى رأس كتفه برجمٌ صغير مخيَّط بقبائة، فَحَمَلَ طائفة من الخُوارزْميَّة على عسكر الروم؛ فثبتُوا، فتقدّم الأشرف إلى سابِق الدين ومعه من عسكر مصر ألف وخمسمائة فارس، وإلى عسكر حمص وحلب وحماة، فانتقى ألف فارس، ونَدَبَ بعض أمراءِ العرب في ألف فارسٍ من العرب، فحملوا على التَّلِّ الّذي عليه الخُوارزْميّ، فلمّا عاين الموتَ الأحمر مقبلًا، انهزم، فلمّا رأى جيشُه فِراره انهزموا. وأمّا الذين حملُوا على عسكر الرُّوم، فبقُوا في الوسط، فلم يَفْلِتْ منهم أحد. ثمّ إنَّ الخُوارزْميّين لِشدَّة رُعبهم لم يَقْدِروا على الهرب، ولم يهتدوا سَبيلًا، وأكثرُهم نزلوا عن خيولهم، وانجحروا في بطون الأَودية والبيوت الخَرِبة، فتحكَّم فيهم الفلَّاحون والغِلْمان، وقَتَلهُم أَضْعَفُ النَّاس. وانحرف منهم ثلاثةُ آلاف على بلاد جانيت، فخرج إليهم فلاّحو الرُّوم والنَّصارى فقتلوهم عن آخرهم. وفلّق -[655]- الخُوارزْميّ عند هربه نحو مائتي حصان، ووصلَ خِلاط في سبعة أنفس، فأخذ حُرَمه وما خَفَّ من الأَموال، واجتاز على منازجرد وكانت محصورة بوزيره، ووصل جائعًا فأطعمه وزيرُهُ. ثمّ دخلَ أَذْرَبَيْجَان بالخِزْي والصِّغار، فصادر أهل خُوَيّ، ومات منهم جماعة تحتَ العُقوبة.

وأمّا الأَشرفُ فلو ساقَ بعسكره وراءَهم لأتى عليهم قَتْلًا وأَسْرًا. وتَسَلَّم أَرْزَن الرّوم، وسلّمها إلى علاء الدِّين كَيُقْباذ، فأخذ مُلكًا خيرًا من جميعِ مملكته.

وأمّا صاحبُها ابن مغيث الدِّين ابن عمّ علاء الدِّين فإنَّه رُمِيَ بالخِذْلان، والتجأَ إلى كهفٍ حَتّى أخذوه أَخْذَ النِّساء. ثمّ نزلَ الأشرفُ على منازجرد، وصَمَّمَ على أنّ يدخلَ وراءَ الخُوارزْميّ، وأقَامَ شهورًا، ثمّ تراسلا في الصّلح، فاصطلحا على ما يؤثر الملك الأشرف. فَرَجَع وَفَرَّقَ العسكر، وأَمِنَتِ خِلاط وشرعت تعمر.

وحكى أميرٌ قال: حملنا على الخُوارزْميّ فوقع عسكره في وادٍ وهَلَكوا، زحمناهم على سفْح يُفضي إلى وادٍ عميق، فَتَكَرْدَسوا بخيولهم، فتقطّعوا إرْبًا إرْبًا. وأشرفنا على الوادي ثاني يوم فرأيناهُ مملوءًا بالهَلْكى لو نجد فيهم حيًّا إلّا خادَم الخُوارزْميّ مكسورَ الرِّجل، وأقمنا أيامًا نُقَلِّب القتلى لعلّ أنّ يكون فيهم جلال الدِّين الخُوارزْميّ. وأُسر خلْق من خواصّه وأَعلامه وسَناجقه. وذكروا أنَّ العربَ أخذوا من خيمته باطية ذهبٍ وزنها خمسةٌ وعشرون رطلًا، فنفلَهُم إيّاها الملكُ الأشرف. والعجبُ أنّ هذه الوقعة لم يُقتل فيها من عسكر الشّام أحد، ولا جُرح فَرَس إلّا رَجل مِن عسكر حمص جُرِح بسَهْم. وزالت هيبةُ الخُوارزْميَّة من القلوب، وزالَ سَعْدُهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015