فيها التقى السلطان جلال الدين ابن خُوَارِزْم شاه هُوَ وتُولّي خان مقدّم التَّتَار، فكسَرَهُم جلالُ الدين وركب أكتافهم قَتْلًا بالسيف، وقتل مقدمهم تولي خان بن جنكزخان، وأسر خلقًا من التَّتَار. فَلَمَّا وصل الخبرُ إلى جنكزخان قامت قيامته ولم يقرّ لَهُ قرار دون أنْ جمع التَّتَار، وسارَ يجدّ السَّيْر إلى حافَّة السِّنْد.
وَكَانَ جلال الدين قد انثنى عَنْهُ أخوه وجماعة من العَسْكر فضاقَ عليه الوقت في استرجاعهم لقرب التتار منه، فكرب في شوال سنة ثمان عشرة فالتقى الْجَمْعان، وثبت السُّلْطَان جلال الدين في شِرذمة، ثُمَّ حمل بنفسه على قلب جنكزخان فمزقه، وولى جنكزخان مُنْهزمًا وكادت الدائرة تدور عَلَيْهِ لولا أَنَّهُ أفرد كمينًا قبل المَصافّ نحو عشرة آلاف، فخرجوا عَلَى ميمنة السُّلْطَان وعليها أمين ملك، فانكسرت وأُسر ابن جلال الدين، فتبدّد نظامهُ، وتقهقر إلى حافة السند، فرأى والدته ونساءه يصحْن: باللَّه اقتلنا وخَلّصنا من الْأسر. فأمَر بهنّ فغُرِّقن. وهذه من عجائب المصائب، نسأل اللَّه حسن العواقب.
فَلَمَّا سُدَّت دونه المهارب وأحاطت بِهِ النَّوائب؛ فالسيوف وراءه، والبحر أمامه، فرفس فرسه في الماء على أنه يموت غريقًا فعبر بِهِ فرسُه ذَلِكَ النَّهْر العظيم لُطفاً من اللَّه بِهِ، وتخلَّص إلى تِلْكَ الجهة زهاء أربعة آلاف رجل من -[303]- أصحابه حُفاة عُراة. ثُمَّ وصل إليه مركبُ من بعض الجهات وفيه مأكول وملْبُوس، فوقع ذَلِكَ منه بموقعٍ. فَلَمَّا علِمَ صاحب الْجُوديّ أَنَّ جلال الدين وصل إلى بلاده طلبهُ بالفارس والراجل، فبلغ ذلك جلال الدين، فعظُم عَلَيْهِ، لأن معه أصحابه مُجَرَّحين وضُعفاء، فانجفل من مكانه، وأمر من معه من أصحابه أَنَّ كلّ جُرَيْح يقدر عَلَى الحركة فليَصْحبه، وإلا فليحزّ رأسه. وسار عازمًا عَلَى أن يقطع نهر السِّنْد ويختفي بمن معه في بعض الجبال والآجام، ويعيشوا من الغارات. واعتقد الهُنود أَنَّهُ وقومه من التَّتَار، فتأخّر جلال الدين بمن معه من الجبل، وتقدَّم ملكُ الهند بجمعه، فَلَمَّا رَأَى جلال الدين حمل عَلَيْهِ ملك الهند بجيشه، وثبت لَهُ جلال الدين إلى أن قاربه، فاستوفَى عَلَيْهِ بسَهْم في فؤاده فسقطَ قتيلًا وانهزم جيشه، وحاز جلالُ الدين الغنائم والْأموالَ فعاشَ بذلك.
ثُمَّ رحل إلى سِجْستان، وأخذ ما لَهُ بها من الأحوال، وأنفق فيمن معه، وتماثل أمره.
وَقَالَ القاضي ابن واصل: كَانَ جلال الدين بغَزْنة في ستين ألفًا، فقصدَهُ عسكر جنكزخان في اثنى عشر ألفًا فكَسَرهم. فسيَّر جنكزخان مَعَ ابنه عسكرًا، فوصل إلى كابُل، فالتقى الجمعان فاقتتلوا قتالًا عظيمًا فانهزمت التَّتَار، وقُتل خلْق وأُخذت أموالُهم، ثُمَّ جرت فتنة لِما يريده اللَّه، وَهُوَ أَنَّ الْأمير سيف الدين بُغراق التّركيّ كَانَ شجاعًا مِقْدامًا، وقع بينه وبين قرابةٍ للسلطان أمير فتنة لأجل الغنيمة، فاقتتلوا فقُتل أخو بُغراق، فغَضِبَ، وَقَالَ: أَنَا أهزم الكُفَّار ويُقتل أخي عَلَى السُّحت. وفارقَ العَسْكَر وقصدَ الهِند فتبعه شطرُ الجيش فلاطَفَهُ السُّلْطَان جلال الدّين، وسار بنفسه إِلَيْهِ، وذكر الجهادَ وخوفهُ من اللَّه، وبكى بين يديه فلم يرجع، وسارَ مُغاضبًا. فوصل الخبر بوصول جنكزخان في جموعه، فتحيّر السطان وسارَ فوصل إلى ماء السِّنْد، وَهُوَ نهر كبير، فلم يجد من السُّفُن ما يعبر فيه. وتبعه جنكزخان وألَحَّ في طلبه، فالتقى الجمعان واشتدَّ الحربُ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ ما مضى من الحروب كَانَ لعبًا بالنسبة إِلَيْهِ، ودامَ القتالُ ثلاثة أيّام، -[304]- وقُتل خلقٌ من الفريقين وفي التَّتَار أكثر، فتحيَّز التَّتَر ونزلوا. وضعف المسلمون، وجاءتهم سفن فعبروا فيها، وما علموا بما أصاب التَّتَار من القَتْل والجراح، ولو عرفوا لكدّوا عليهم، فنازلت التَّتَر غَزْنة وملكوها لوقتها، فقتلوا وسَبَوا، ولم يبقوا على أحد، ثم أحرقوها.
وَقَالَ أَبُو شامة: فيها توجّه الملك المُعظم إلى أخيه الملك الْأشرف، فاجتمع بِهِ بحرّان. ثُمَّ دعاهُ صاحب ماردين، فبالغ في الخدمة، وقَدَّم لَهُ تُحَفًا. وزوَّج المُعَظَّم بنتَهُ الواحدة بناصر الدين صاحب ماردين.
وفيها جاءت الْأخبار بأنّ التَّتَر قاربوا بَغْدَاد، فانزعج الخليفةُ، وأمرَ النَّاس بالقُنوت، واستخدمَ، وأنفقَ وحصن البلد.
وفي جُمَادَى الآخرة استردَّ المصريون دِمْيَاط من الفرنج. ورجع المُعَظَّم من حَرّان، وحضر معه الملك الْأشرف بجيشه. قَالَ أَبُو المُظَفَّر: فاجتمعتُ بِهِ وحَرّضته عَلَى نُصرة الإِسْلَام وقلتُ: المُسلمون في ضائقة وَإِذَا أخذت الفرنج الدّيار المصرية ملكوا إلى حضْرَمَوت، وعفّوا آثار الحرمين وَأَنْتَ تلْعب؟! اجتمعتُ بِهِ بسَلَمْية، فَقَالَ: ارموا الخيام. فسبقتُه إلى حِمْص وبشَّرت المُعَظَّم، وأصبحت أطلابُ الْأشرف مارَّة عَلَى حِمْص، وجاء طلب الْأشرف، واللَّه ما رَأَيْت أجْمَل منه ولا أحَسْن رجالًا وعُدَّة، فاتفقا عَلَى أن يدخلا في السَّحَر إلى طرَابُلُس يشوشون عَلَى الفرنج. فأنْطَقَ اللَّه الْأشرفَ فَقَالَ: " يا خوند! عَوَض ما نَدْخُل السَّاحل وتضعفُ خيلنا ويضيع الوقت ما نروح إلى دِمْيَاط ونستريح ". فَقَالَ المُعَظَّم: قولُ رُماة البُنْدق؟ قَالَ: نعم. فقبّل المُعَظَّم قدمه. ونام الْأشرف، فخرجَ المُعَظَّم يصيح: الرحيل إلى دِمْيَاط، وساقَ إلى دمشق، وتبعته العساكر، وانتبه الْأشرف فدخل الحَمّام، فلم يرَ حول مخيّمه أحدًا، فأخبروه فسكت، ثُمَّ سارَ فنزلَ القصير، فأقام أيَّامًا ثُمَّ عرَض العساكر هُوَ وأخوهُ، -[305]- وجَلسا في الطيّارة، وَالنَّاس يدعون لهما بالنّصر.
وأمّا فرنج دِمْيَاط فإنهم خرجوا بالفارس والرَّاجل، وكان البحر زائداً جداً، فجاؤوا إلى تُرعة فأرسوا عليها، وفتح المسلمون عليهم التّرع من كلّ مكان، وأحدقت بهم عساكر الكامل، فلم يبقَ لهم وصول إلى دِمْيَاط، وجاء أصطول المُسلمين فأخذوا مراكبهم، ومنعوا عَنْهُم المِيرة من دِمْيَاط، وكانوا خلقًا عظيمًا، وانقطعت أخبارهم عن دمياط، وكان فيهم مائة كند، وثمانمائة من الخيّالة، وصاحب عَكَّا، ومن الرّجّالة ما لَا يُحصى. فَلَمَّا عاينوا الهَلاك أرسلوا إلى الكامل يطلبون الصُّلح ويسلّمون إِلَيْهِ دِمْيَاط، فأجابهم، ولو طوَّل روحه يومين لأخذ برقابهم. فبعث إليهم ولده نجمَ الدين أيوب وابن أخيه شمس الملوك، وجاءت ملوكهم إلى الكامل فتلقّاهم وأنعم عليهم، فوصل إِلَيْهِ المُعَظَّم والْأشرف بالجيوش في تِلْكَ الحال في رجب، فعمل الكامل سماطًا عظيمًا، وأحضر ملوك الفرنج، ووقف في خدمته الْأخَوان والْأُمراء، وَكَانَ يومًا مشهودًا. وقام راجح الحِلّيّ الشاعرُ فأنشد قطعةً مليحة منها:
ونادى لسانُ الكونِ في الْأرضِ رَافِعًا ... عقيرتهُ في الخافِقَيْنِ ومُنشداً
أعُبَّادَ عيسى، إِنَّ عيسى وحِزْبه ... ومُوسى جَمِيعًا يَنْصُرَانِ مُحَمَّدا
وأشار إلى الإخوة الثَّلاثة.
ثُمَّ سار الفرنج في البَرِّ والبحر إلى عكا، ورجعت العساكر، وأقامَ الأشرفُ بمصر وصافَى أخاه بعدما كَانَ في النّفس ما فيها، واتّفقا عَلَى المُعَظَّم!
وفيها كتب الخليفةُ إلى الآفاق بإعادة أَبِي نصر محمد إلى ولاية العهد.
وفيها ولي قضاء دمشق جمال الدين المَصْرِيّ.
وعُيِّن لبناء سور دمشق مائتا ألف دينار، وقد ذُرع فجاء دوره ستَّة آلاف ذراع.
قَالَ المؤَيَّد: طمعت الفرنج بأخذ الديار المصرية، وبذل لهم الكامل بيت المَقْدِس، وعسْقلان، وطبرية، وجَبَلَة، وأماكن، فأبَوْا، ثُمَّ جاءته أمداد الشَّام والجزيرة، ونزل النصر.