فيها قصد مُظَفَّر الدين صاحب إربل المَوْصِل، فخرجَ إِلَيْهِ بدر الدّين لؤلؤ، فَكَسَرهُ مُظَفَّر الدين، وأفلتَ لؤلؤ وحده، ونازل مظفرُ الدين المَوْصِل، فجاءَ الملك الأشرفُ من حران نَجْدةً للؤلؤ، ثم وقع الصلح.
وفيها كانت فتنة ابن المَشْطوب، لَمَّا كَانَ المُعَظَّم بديار مصر عام أَوَّل، بلغه أَنَّ الملك الفائز أخاه قد اتفق مع الْأمير عماد الدين ابن المشطوب أحد الْأمراء الكبار عَلَى أخيه الكامل، وقد استحلفَ للفائز العساكر. فعرف الكاملُ فرحلَ إلى أَشموم، وهَمَّ بالتوجّه إلى اليمن، ويَئس من البلاد، فَقَالَ لَهُ المُعظم: لَا بأس عليك، ورَكِبَ وجاء إلى خَيْمة ابن المَشْطوب، فخرج إلى خدمته بغير خُفٍّ، وركب معه، فسيّر معه، فأَبْعَدَ بِهِ، وَقَالَ: أخي الْأشرف قد طلبك فسر إليه مسرعاً. فقال: ما معي غلماني ولا قماشي، فَوَكَّل بِهِ جماعة، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ في خدمتك. وأعطاه نفقة خمسمائة دينار، وَقَالَ: كلّ شيء تريد يلحقك في الحال. فسارَ، وجهَّز المُعَظَّم جميع أحواله خلْفَه، ثُمَّ رجع إلى مُخَيَّمه، فجاءَ الكامل إِلَيْهِ وقَبَّل الْأرضَ بين يديه.
وأما الفائز فخاف خوفًا عظيمًا، واجتاز ابن المشطوب عَلَى دمشق وحماة، وعدّى الفرات إلى الْأشرف فتلقّاه وأكْرَمه، فصار يركب بالشبابة، -[287]- ويعمل له موكباً كالأشراف، فأعطاه أرجيش، فتجبر، وخامَر عَلَى الْأشرف، وطَلَعَ إلى ماردين، ثُمَّ قَصد سِنْجار في هذه السنة، وساعدهُ صاحبُ ماردين، فسارَ لحربه الملكُ الْأشرفُ، فدخل ابن المشطوب إلى تلْعَفر، فأنزله بدرُ الدين لؤلؤ صاحبُ الموصل بالأمان، وحملهُ معه إلى الموصل، ثم قيده وبعث بِهِ إلى الأشرف، فألقاه في الجُبِّ، فمات بالقملِ والجوع.
وَكَانَ عماد الدين ابن نور الدين صاحب قَرْقيسيا مَعَ الْأشرف، فكاتب ابنَ المشطوب، فَعلِمَ الأشرفُ فحَبَسهُ وبعثَ بِهِ مَعَ العَلَم قيصر المعروف بتعاسيف إلى قرقيسيا وعانة، فعَلَّقه تحت القلعتين وعَذَّبه، وتسَلّم تعاسيفُ جميع بلاده، وأراد الْأشرف أن يرميه في الْجُبّ، فشفع فيه الملك المُعظم، فأطلقه، فسار إلى دمشق فأحسن إِلَيْهِ المُعَظَّم، واشترى بُستان ابن حَيّوس بنواحي العُقيبة، وبنى فيه قبةً، وأقام بِهِ إلى أن مات، ودُفن بالقُبة، وَهِيَ عَلَى الطريق في آخر عمارة العُقيبة من شماليها بغربٍ.
وفيها تَزَّوج الْأخَوان المنصور إِبْرَاهِيم، والمسعود أَحْمَد، ابنا أسد الدين بابنتي الملك العادل، أُختي الصالح إسْمَاعِيل لأبويه، وتزوَّج أخوهُما يَعْقُوب بابنة المُعظم، وتزوج عُمر ابن المُعظم بابنة أسد الدِّين، ومَهْرُ كلٍّ منهنّ ثلاثون ألف دينار.
ودرس بالعزيزية القاضي ابن الشيرازي.
وفيها عُمِل عزاء شيخ الشيوخ ابن حَمَّوَيْه بجامع دمشق، فتكلَّم واعظٌ وأنشدَ أبيات ابن سينا: "هبطت إليكَ من المحلّ الْأرفع ". فأنكر القاضي الجمال المَصْرِيّ وَقَالَ: هذه الْأبيات قول زِنْديق، وأمره بالنُّزول فتعصَّبَ لَهُ جماعةٌ فتمَّمَ ونَزَلَ، وسَكَّن المُعتمد العصبية بعد أن جُذِبت سكاكين.
ثُمَّ عُزل ابن الشِّيرَازِيّ من العزيزية بالآمديّ.
وفيها قَتَلَ صاحبُ سِنْجار أخاه، فسارَ الملكُ الْأشرف إليها فأخذَها، وعوَّض صاحبَها الرَّقَة، فنزل من سنجار بأهله، وَهُوَ آخر ملوك البيت الْأتابكي، ومُدَّة مُلْكهم أربعٌ وتسعون سنةً، ومات بعد أن تسلَّم الرَّقة بقليلٍ، -[288]- وانقصفَ شبابهُ ولم يُمتع بعد قَتْل أخيه.
وفي رجَب كانت وَقْعَة البُرُلُّس، وكانت وَقْعَة هائلة بين الفرنج والكامل، قتل الكاملُ منهم عشرةَ آلاف، وأخذ غنائمهم وخَيْلهم، وانهزموا إلى دمياط.
وفيها عُزل المعتمد عن ولاية دمشق، وَوُلِّيَ الغرس خليل.
وحج فيها المعتمد بالركب، وحجَّ بركب بَغْدَاد آقباش النَّاصري، فقُتل بمكة، وعاد ركبُ العراق مَعَ الشاميين، وَكَانَ مَعَ آقباش تقليدٌ بإمرة مكةَ لحسن بن قَتَادَة بن إدريس، لأنَّ أَبَاه ماتَ في وسط العام، فجاءهُ بعرفات راجحٌ أخو حَسَن وَقَالَ: أَنَا أكبر ولدَ قَتَادَة فَوَلِّني، وظنَّ حسنٌ أن آقباش قد وَلَّى راجحًا، فغلَّق مكة، ثُمَّ نزل آقباش بشُبيكة، وركب ليسكن الفتنة ويُصلح بين الْأخوين، فبرز عبيدُ حسن يقاتلونه، فَقَالَ: ما قصدي القتال. فلم يلتفتوا إِلَيْهِ، وثاروا بِهِ، فانهزم أصحابُه وبقي وحده، فجاء عبدٌ فَعرقَبَ فرسهُ، فوقع، فقتلوه، وحملوا رأسه عَلَى رُمحَ فنُصب بالمَسْعى. وأرادوا نَهب العِراقيّين، فقامَ المُعتمد في الْأمر، وخوَّفَ الحَسَن من الكامل والمُعظم. وَكَانَ آقباش قد اشتراه النَّاصر لدين اللَّه وَهُوَ أمرد بخمسة آلاف دينار، ولم يكن بالعراق أحسنُ منه صورةً، وَكَانَ عاقِلًا متواضعًا، وحَزِن عَلَيْهِ الخليفة.
خروجُ التَّتَار
قَالَ أبو المظفر سبط ابن الْجَوْزيّ: كَانَ أَوَّل ظهورهم بما وراء النَّهْر سنة خمس عشرة، فأخذوا بُخارى وَسَمَرْقَنْد وقتلوا أهلها، وحاصروا خُوَارِزْم شاه، ثُمَّ بعد ذَلِكَ عبروا النَّهْر، فوجدوا الخطا قد كسروا خوارزم شاه، فانضم إليهم الخطا وصاروا تبعًا لهم. وَكَانَ خُوَارِزْم شاه قد أبادَ المُلوك من مدن خُراسان، فلم يجد التَّتَار أحدًا في وجههم، فطووا البلادَ قتْلًا وسبْيًا، وساقوا إلى أن وصلوا إلى همذان وقزوين في هذه السنة، وتوجّهوا إلى أَذْرَبِيجَان.
وَقَالَ ابن الْأثير في كامله: لقد بقيتُ مدةً مُعرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارِهًا لذكرها، أقدمُ رجلاً وأؤخر أُخرى، فمن الَّذِي يسهُل عَلَيْهِ -[289]- أن يكتب نعيَّ الإِسْلَام، فيا ليت أُمي لم تلدني، ويا ليتني مُتُ قبل حدوثها. ثُمَّ حثَّني جماعةٌ عَلَى تسطيرها، فنقول: هَذَا الفصل يتضمن ذِكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الدُّهور عن مثلها، عمّت الخلائق، وخصَّت المُسلمين، فلو قَالَ قائل: إنَّ العالم منذ خلقهُ اللَّه إلى الآن لم يُبْتلوا بمثلها، لكان صادقًا، فإنّ التواريخ لم تتضمن ما يقاربها. ومن أعظم ما يذكرون فعل بختُ نصَّر ببني إسرائيل بالبيت المُقدس، وما البيت المُقدّس بالنسبة إلى ما خَرّب هَؤُلَاءِ الملاعين؟! وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى ما قتلوا؟!
فهذه الحادثة التي استطار شررُها وعمَّ ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريحُ، فإنّ قومًا خرجوا من أطراف الصين فقصدُوا بلاد تُركستان، مثل كاشْغر، وبلاشغون، ثُمَّ منها إلى بُخَارَى، وَسَمَرْقَنْد فيملكونها، ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثُمَّ تعبُرُ طائفةٌ منهم إلى خُراسان فيفرغون منها مُلْكًا وتخْريبًا وقتْلًا وإبادة إلى الرّيّ وهمذان إلى حدِّ العراق، ثُمَّ يقصدون أَذْرَبِيجَان ونواحيها ويخرِّبونها ويستبيحونها في أقلِّ من سنةٍ، أمرٌ لم يُسمع بِمِثْلِهِ.
ثُمَّ ساروا من أَذْرَبِيجَان إلى دَرْبَنْد شِرْوان فملكوا مدنهُ، ولم يسلم غير القلعة التي فيها ملكهم، وعبروا من عندها إلى بلد اللّان واللّكْز فقتلوا وأسروا، ثُمَّ قصدوا بلاد قَفْجاق، وهم من أكثر التُّرك عددًا، فقتلوا من وقف، وهرب الباقون إلى الشعراء والغياض ورؤوس الجبال، وفارقوا بلادهم، واستولى التتر عليها.
ومضى طائفةٌ أخرى غير هَؤُلَاءِ إلى غزْنة وأعمالها، وسجستان وكَرْمان، ففعلوا مثل هَؤُلَاءِ بل أشدّ، هَذَا ما لم يطرق الْأسماع مثله؛ فإنّ الإسكندر الَّذِي ملكَ الدُّنْيَا لم يملكها في هذه السرعة، وإنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدًا، إنّما رضي بالطاعة. وَهَؤُلاءِ قد ملكوا أكثر المَعْمور من الْأرض -[290]- وأحسنه وأعمرهُ في نحو سنة، ولم يبقَ أحدٌ في البلاد التي لم يطرقوها إِلَّا وَهُوَ خائفٌ يترقّب وصولهم إِلَيْهِ. ثُمَّ إنهم لم يحتاجوا إلى ميرة، ومددهم يأتيهم، فإنّهم معهم الْأغنام والبقرُ والخيْلُ يأكلونَ لحومهَا لَا غير. وأما خيلهم فإنها تحفر الْأرض بحوافرها، وتأكل عُروق النَبات، ولا تعرف الشَّعير. وأمّا ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طُلوعها ولا يُحرمون شيئًا، ويأكلون جميعَ الدّوابّ وبني آدم. ولا يعرفون نكاحًا، بل المرأة يأتيها غيرُ واحد، فَإِذَا جاءَ الولدُ لَا يُعرف أبوهُ. وتهيأ لهم أخذ الممالك، لأنّ خُوارزم شاه مُحَمَّدًا كَانَ قد استولى عَلَى البلاد، وقهَرَ ملوكها وقتلهم، فَلَمَّا انهزم من التَّتَار لم يبق في البلاد من يمنعُهم ولا من يحميها، ليقضي اللَّه أمرًا كَانَ مَفْعولًا.
وهم نوع من التُرك، مساكنهم جبال طَمْغاج، بينها وبين بلاد الشَّرق أكثر من ستة أشهر، وكان ملكهم جنكزخان قد فارق بلاده، وسار إلى نواحي تُركستان، وسَيّر معه جماعة من الْأتراك التُّجَّار، ومعهم شيء كثير من النُّقْرَة والقُنْدُز وغير ذَلِكَ، إلى بلاد ما وراء النَّهْر ليشتروا لَهُ ثيابًا وكُسْوةً، فوصلوا إلى مدينةٍ من بلاد التُّرك تُسمى أوترار، وَهِيَ آخر ولاية خُوارزم شاه، وَلَهُ بها نائبٌ. فَلَمَّا ورد عَلَيْهِ هذه الطائفة، أرسل عرّف السلطان، فبعث يأمره بقتلهم وأخْذ ما معهم، وَكَانَ شيئًا كثيرًا.
وَكَانَ بعد مملكته مملكةُ الخَطا، وقد سدّ الطّرق من بلاد تُركستان وما بعدها من البلاد، لأنّ طائفةً من التَّتَار أَيْضًا كانوا قد خرجوا من قديم الزمان والبلاد للخَطا. فَلَمَّا ملك خُوارزم شاه، وكَسَر الخَطا، واستولى عَلَى بلادهم، استولى هَؤُلَاءِ التَّتَار عَلَى تُركستان، وصاروا يحاربون نُوّاب خُوارزم شاه، فلذلك منَعَ الميرة عنهم من الكسوة وغيرها. وَقِيلَ غير ذَلِكَ.
فَلَمَّا قُتل أولئك التجار، بعث جواسيس يكشفون له جيش جنكزخان، فمضوا وسلكوا المفاوزَ والجِبال، وعادوا بعد مُدَّة، وأخبروا بأنهم يفوقون -[291]- الإحصاء، وَأَنَّهُم مِن أصبر خلق اللَّه عَلَى القتال، لَا يعرفون هزيمةً، ويعملون سلاحهم بأيديهم، فندِمَ خُوَارِزْم شاه عَلَى قَتْل تُجَارهم، وحَصَلَ عنده فِكرٌ زائدٌ، فأَحضر الفقيه شهاب الدين الخيوقي فاستشاره، فقال: اجمع عساكرك ويكون التغير عامًّا، فَإِنَّهُ يجب عَلَى الإِسْلَام ذلك، ثُمَّ تسير بالجيوش إلى جانب سَيْحون، وَهُوَ نهر كبير يفصل بين التُّرك وبلاد ما وراء النَّهْر، فتكون هناك، فَإِذَا وصلَ إِلَيْهِ العدوّ وقد سار مسافة بعيدة، لقيناه، وَنَحْنُ مستريحون، وهم في غاية التَّعب. فجمع الْأُمراء واستشارهم، فلم يوافقوه عَلَى هَذَا، بل قَالُوا: الرأي أن نتركهم يعبرون سيحون إلينا، ويسلكون هذه الجبال والوعر، فإنهم جاهلون بطُرقٌها، وَنَحْنُ عارفون بها، فنقوى حينئذٍ عليهم ويهلكون.
فبينما هم كذلك إذ قدم رسول جنكزخان يتهدّد خُوارزم شاه وَيَقُولُ: تقتلون تُجاري وتأخذون أموالهم، استعدوا للحرب، فها أنا واصلٌ إليكم بجمْعٍ لَا قِبَل لكم بِهِ. وَكَانَ قد سار وملك كاشغر وبلا ساغون وأزال عَنْهَا التَّتَار الْأوّلين، فلم يظهر لهم أثر، ولا بقي لهم خبر، بل أبادهم، فقتل خُوارزم شاه الرَّسُول، وأما أصحابُه فحلق لحاهم، وردهم إلى جنكزخان يقولون لَهُ: إِنَّهُ سائرٌ إليك. وبادر خُوارزم شاه ليسبقَ خبرهٌ ويكبس التَّتَار، فقطع مسيرةَ أربعة أشهر، فوصل إلى بيوت التَّتَار، فما وجد فيها إلى الحريم فاستباحها، وَكَانَ التَّتَار قد ساروا إلى محاربة ملك من ملوك التُرك يقال له كشلوخان فهزموه، وغنموا أمواله، وعادوا فجاءهم الصريخ بما جرى، فجدُّوا في السيّر فأدركوا خُوَارِزْم شاه، وعملوا معه مصافًّا لم يُسمع بِمِثْلِهِ، واقتتلوا أشدّ قتال، وبقوا في الحرب ثلاثة أيام ولياليها، وقُتل من الطائفتين خلقٌ لَا يُحصون، وثبت المسلمون وابلوا بلاءً حسنًا، وعلموا أَنَّهُم إن انهزموا لم يبقَ للمسلمين باقية، وَأَنَّهُم يؤخذون لبُعدهم عن الديار. وأمّا الكفار التَّتَار فصبروا لاستنقاذ أموالهم وحريمهم، واشتدَّ بهم الْأمرُ حَتَّى كَانَ أحدُهم ينزل عن فرسه وقِرْنه راجل، فيقتتلان بالسكاكين. وجرى الدّمُ حَتَّى زلقت الخيل فيه من كثرته، واستفرغ -[292]- الفريقان وسُعَهم في الصَّبْر. وَهَذَا القتال كلّه مع ابن جنكزخان، فإنّ أَبَاه لم يحضر الوَقْعَة، ولم يشعر بها، وقُتل من المسلمين عشرون ألفًا، ومن الكفار ما لا يُحصى.
فَلَمَّا كانت الليلة الرابعة نزل بعضهم مقابل بعضهم، فَلَمَّا كَانَ الليل أوْقدَ التَّتَار نيرانهُم، وتركوها بحالها وساروا، وكذلك فعل المسلمون أَيْضًا، كلٌّ منهم قد سئم القتال. ورجع المسلمون إلى بُخَارَى، فاستعدوا للحصار لعلم خُوارزم شاه بعجزه، لأنّ طائفةً من التَّتَار لم يقدر أن يظفر بهم، فكيف إذا جاؤوا بأجمعهم مَعَ ملكهم جنكزخان؟ فأمرَ أهلَ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْد يستعدون للحصار، وجعل ببُخَارَى عشرين ألف فارس، وفي سَمَرْقَنْد خمسين ألف فارس، وَقَالَ: احفظوا البلاد حَتَّى أعود إلى خُوارزم وأجمع العساكر وأعود. ثم عبر النَّهْر ونزل عَلَى بَلْخ، فعسْكَر هناك.
وأمّا التَّتَار فإنهم أقبلوا، فنازلوا بُخَارَى وحاصروها ثلاثة أيام وزحفوا، ففرَّ مَنْ بها من العساكر، وطلبوا خُراسان في الليل، فأصبح البلدُ خاليًا من العَسْكر، فأخرجوا القاضي بدر الدين ابن قاضي خان ليطلب لهم الْأمان، فأعطوهم الْأمان، واعتصم طائفةٌ من العسكر بالقلعة، ففتحت أبواب بُخارى للتتار في رابع ذي الحجَّة سنة ستّ عشرة، فدخلت التَّتَار ولم يتعرضوا إلى أحد، بل طلبوا الحواصل السلطانية، وطلبوا منهم المساعدة عَلَى قتال من بالقلعة، وأظهروا العدل. ودخل جنكزخان؛ لعنه اللَّه، وأحاط بالقلعة، ونادى في البلد أن لا يتخلف أحدٌ، من تخلّف قُتل، فحضروا كلّهم لِطَمِّ الخندق، وطَمُّوه بالتراب والْأخشاب، حَتَّى إِنَّ التَّتَار كانوا يأخذون المنابر وربعات الكتاب العزيز فيُلْقُونها في الخندق، فإنّا لله وَإنَّا إِلَيْهِ راجعون. ثُمَّ زحفوا على القلعة وبها أربعمائة فارس، فمنعوها اثنى عشر يومًا، فوصلت النّقوب إلى سورها. واشتد القتال، فغضب جنكزخان وردّ أصحابهُ ذَلِكَ اليوم، وباكرهم من الغد، وجدُّوا في القِتَال، فدخلوا القلعة، وصدَقَهُم أهلها حتى قتلوا عن آخرهم. ثم أمر جنكزخان أن يُكتب له رؤوس البلد، ففعلوا، ثم أحضرهم فَقَالَ: أريد منكم النُّقْرة التي باعكم خُوارزم شاه فإنها لي. فأحضر كل من عند شيء منها، -[293]- ثُمَّ أمرهم بالخروج من البلد، فخرجوا مُجَرَّدين، فأمر التَّتَار أن ينهبوا البلد، فنهبوه، وقتلوا مَنْ وجدوا بِهِ، وأمر التتار أن يقتسموا المُسلمين، فتمزّقوا كل مُمُزق، وأصبحت بُخَارَى خاويةً عَلَى عروشها، وسبوا النِّساء. ومن النَّاس من قاتل حَتَّى قُتل، وكذا فعل الإمامُ ركن الدين إمام زادة، والقاضي صدر الدين وأولادهم. ثُمَّ ألقت التَّتَار النار في البلد والمدارس والمساجد. وعذَّبوا الرؤساء في طلب المال.
ثُمَّ رحلوا نحو سَمَرْقَنْد وقد تحقَقَّوا عجز خُوارزم شاه عَنْهُمْ واستصحبوا أُسارى بُخارى معهم مُشاة في أقبح حالٍ، ومن عجز قتلوهُ، فأحاطوا أَيْضًا بسمرقند، وبها خمسون ألف مقاتل، فخرج إليهم الشُّجعان من الرَجالة وغيرهم، فانهزموا لهم وأطمَعُوهم، ولم يخرج من الخمسين ألف أحدٌ لَمَّا قد وَقَر في قلوبهم من الرُّعب، وَكَانَ التَّتَار قد أكمَنُوا لهم، فَلَمَّا جازت الرجالُ ذَلِكَ الكمين، خرجوا عليهم وحالوا بينهم وبين البلد، فلم يسْلَم منهم أحدٌ.
قَالَ: وكانوا عَلَى ما قِيلَ سبعين ألفًا رحمهم اللَّه، فضعُفت نفوسُ الجُند والعامَّة، وأيقنوا بالهلاك، وطلبَ الْجُنْد الْأمان، فأجابوهم، وفتحوا البلد، وخرجوا إلى التَّتَار بأهاليهم وأموالهم، فَقَالَ لهم التَّتَار: ادفعوا إلينا سلاحكم وخيلكم وأموالكم، وَنَحْنُ نُسَيِّركُم إلى مأمنكم. ففعلوا ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ رابع يوم نادوا في العوامّ: ليخرجوا كلهم، ومن تأخر قتل، فخرج الجميعُ، ففعلوا بهم كما فعلوا بأهل بُخارى، نهبوا وسبوا وأحرقوا الجامع، وَذَلِكَ في المُحرم من هذه السنة.
ثم سير جنكزخان عشرين ألف فارس خلفَ خُوارزم شاه، فأتوا جَيْحون، فعملوا من الخشب مثل الْأحواض، وألبسوها جلود البقر لئلا يدخلها الماءُ، ووضعوا فيها سلاحهم وأمتعتهم، وألقوا الخيلَ في الماء، وأمسكوا بأذنابها، وتلك الحياض مشدودة إليهم، فَكَانَ الفرسُ يجذب الرجل، والرجل يجذب الحَوْض، فعبروا كُلُّهم، فلم يشعر خُوارزم شاه إِلَّا وقد خالطوه. واختلفت الخطا عَلَيْهِ، كما ذكرنا، وانهزم، وساقوا وراءه إلى أن ركب البحر إلى قلعةٍ لَهُ فأيسوا منه، وقصدوا الرّيّ وبلاد مازَنْدران فملكوها في أسرع وقت، وصادفوا في الطريق والدة خُوارزم شاه ونساءهٌ وخزائنه، وَكَانَ قصْدها إصبهان، فأخذوها وسيَّروها برُمتّها إلى جنكزخان وهو بسمرقند. -[294]-
ثُمَّ دخلوا الرّيّ وقتلوا وسبوا، ووصلوا إلى زنْجان فبدَّعوا، ثُمَّ عطفوا إلى قزوين فحاصروها وأخذوها بالسيف، وقتل من الفريقين ما لا يُحصى، قِيلَ: بلغوا أربعين ألفًا.
ثُمَّ ساروا إلى أَذْرَبِيجَان فاستباحوها. ثُمَّ نازلوا تِبْريز وبها ابن البهلوان، فصالحهم عَلَى مالٍ وتحفٍ، فساروا عَنْهُ ليشتّوا عَلَى ساحل البحر، لِأَنَّهُ قليلُ البَرْد وبه المَرْعى، فوصلوا إلى مُوقان، وتطرَّقوا إلى بلاد الكُرج، فبرز لهم من الكُرْج عشرةٌ آلاف مُقاتل، فحاربوهم ثُمَّ انهزموا، فتبعهم التَّتَار إلى قرب تَفْليس وَذَلِكَ في ذي القِعْدَة من سنة سبْع عشرة.
ثُمَّ ساروا إلى مَراغة، وكانت لامرأة، فحاصروها، ثُمَّ ملكوها بالسيف، وقتلوا ما لَا يُحصى، واختفى خلق، فَكَانَ التَّتَار يأخذون الْأسْرَى ويقولون: نادوا في الدُّروب: إِنَّ التَّتَار قد رحلوا. فَإِذَا نادى أولئك خرج من اختفى فيقتلونه حتى قِيلَ أن رجلا من التتار دخل دربا فيه ما يزيد عَلَى مائة رَجُل، فما زال يقتل واحدًا واحدًا حَتَّى أفناهم، ولا يمدُّ أحد منهم يدهُ إليه بسوء، نعوذ باللَّه من الخُذْلان.
ثُمَّ رحلوا إلى نحو إربل فاجتمع بعض عسْكر العراق وعسكر المَوْصِل مَعَ مُظَفَّر الدين، فلمّا سمعوا باجتماع العساكر تقهقروا ظنًّا منهم أَنَّ العسكر يتبعهم، فلما لم يروا أحداً تبعهم أقاموا. وأقام العسكرُ عند دقوقا، ثُمَّ عادوا إلى بلادهم إلى همذان وغيرها، وجعلوا لهم بها شِحْنة، وأرسلوا إِلَيْهِ يأمرونه ليطلب لهم من أهلها أموالاً وقماشًا، ولم يكن خلّوا لهم شيئًا، فاجتمع العامَّة عند الرئيس بهمذان، ومعهم رجل فقيه قد قام في اجتماع الكلمة عَلَى الكُفَّار، فَقَالَ لهم الرئيس العلوي: كيف الحيلة وَنَحْنُ نعجز عنهم؟ فما لنا إِلَّا مصانعتهم بالْأموال. فقالوا لَهُ: أَنْتَ أشدُّ علينا من الكُفَّار، وأغلظوا لَهُ، فَقَالَ: أَنَا واحدٌ منكم فاصنعوا ما شئتم، فوثبوا عَلَى الشِّحْنة فقتلوه، وتحصّنوا، فتقدّم التَّتَار وحاصروهم، فخرج لحربهم العامة والرئيس والفقيه في أوائلهم، فقتلوا من التَّتَار خلقًا، وجُرح الفقيهُ عدَّة جراحاتٍ، وافترقوا، ثُمَّ خرجوا من الغد، فاقتتلوا أشدّ قتال، وقُتل من التتر أكثر من اليوم الأَوَّل. وأرادوا الخروج في اليوم الثالث فعجز الفقيه عن الركوب من الجراحات، وطلب الناسُ الرئيس، فإذا به قد هرب في سربٍ صنعه إلى ظاهر البلد هُوَ وأهله إلى قلعة هناك، -[295]- فتحصّن بها. وبقي الناس حيارى، إِلَّا أَنَّهُم اجتمعت كلمتهم عَلَى الجهاد إلى أن يموتوا. وَكَانَ التَّتَار قد عزموا عَلَى الرحيل لكثرة من قُتل منهم، فَلَمَّا لم يروا أحدًا خرج لقتالهم طمعوا، واستدلّوا عَلَى ضعْفهم، فقصدوهم وقاتلوهم وذلك في رجب من سنة ثمان عشرة وستمائة. ودخلوا البلد بالسيف، وقاتلهم النَّاس في الدّروب، وبطل السلاح للزحمة، واقتتلوا بالسكاكين، فقُتل ما لَا يُحصى. ثُمَّ ألقي في همذان النّار فأحرقوها، ورحلوا إلى تِبْريز وقد فارقها صاحبها أُوزبك بن البَهْلوان، وَكَانَ لَا يزال منهمكًا عَلَى الخمور، يبقى الشهر والشهرين لَا يظهر، وإذا سَمِعَ هَيْعَةً طارَ، وَلَهُ جميع بلاد أذربيجان وأران، ثم قصد نقجوان، وسير نساءه وأهله إلى خوي، فقام بأمر تبريز شمس الدين الطُّغْرَائيّ، وجمع كلمة أهلها، وحَصَّن البلد، فَلَمَّا سَمِعَ التَّتَار بقوتهم أرسلوا يطلبون منهم مالًا وثيابًا، فسَيَّروا لهم ذَلِكَ.
ثُمَّ رحلوا إلى بَيْلقان فحصروها، فطلب أهلها رسولًا يُقَرِّرون معه الصُّلح، فأرسل إليهم مُقدّمًا كبيرًا فقتلوه، فزحفت التتارُ عَلَى البلد وافتتحوه عَنْوَة في رمضان من سنة ثمانِ عشرةَ، ولم يُبقوا عَلَى صغير ولا كبير، وكانوا يَفْجُرون بالمرأة، ثُمَّ يقتلونها.
ثُمَّ ساروا إلى كَنْجة وَهِيَ أُمُّ بلاد أرّان، فعلموا كثرةَ أهلها وشجاعتهم، فلم يقْدُموا عليها وطلبوا منها حَمْلًا، فأُعطوا ما طلبوا.
وساروا عَنْهُمْ إلى الكُرْج، والكُرْج قد استعدُّوا لهم، فالتقوا، فانهزم الكُرْج وأخذهم السيف، فلم يُفلت منهم إلى الشِّريد، فقُتل منهم نحو ثلاثين ألفًا، وعاث التتار في بلاد الكرج وأفسدوا.
ثم قصد دَرْبَند شروان، فحاصروا مدينة شماخي ثُمَّ افتتحوها عَنوةً. ثُمَّ أرادوا عبور الدَّرْبَند فلم يَقْدِروا عَلَى ذَلِكَ، فأرسلوا رسولًا إلى شِروان شاه، يقولون: أرسل إلينا رسولًا. فأرسل عشرة من كبار أصحابه، فأخذوا أحدهم، فقتلوه، ثُمَّ قَالُوا للباقين: إنْ أنتم عرَّفتمونا طريقًا نعبر فيه فلكم الْأمان وإلا قتلناكم. فقالوا: إِنَّ هَذَا الدربند لَيْسَ فيه طريق البتة، ولكن فيه موضع هُوَ أسهل ما فيه من الطُّرق. فساروا معهم في تِلْكَ البلاد إلى ذَلِكَ الطريق فعبروا فيه.
فَلَمَّا عبروا دَرْبَند شِروان ساروا في تِلْكَ الْأراضي وفيها أممٌ كثيرة منهم -[296]- اللّان واللِّكز وطوائف من التُّرك، فنهبوا وقتلوا كثيرًا من اللكز وهم كفار ومسلمون. ثُمَّ وصلوا إلى اللان وهم أمم كثيرةٌ، فجمعوا جمْعًا من القَفْجاق فقاتلوهم فلم يظفروا بهم. فأرسلت التتارُ إلى القَفْجاق يَقُولُون: نحنُ وأنتم جنسٌ واحد، وَهَؤُلاءِ اللّان ليسوا منكم حَتَّى تنصروهم، ولا دينهم مثل دينكم، وَنَحْنُ نعاهدكم أننا لَا نتعرض إليكم، ونحمل إليكم من الْأموال والمتاع ما شئتم. فوافقوهم عَلَى ذَلِكَ، وانعزلوا عن اللّان، فأوقع التَّتَار باللان وقتلوا منهم خلقًا، وسبوا، وساروا بعد ذَلِكَ إلى القفجاق وهم آمنون متفرقون فبيتوهم وأوقعوا بهم، كعادتهم ومَكْرهم؛ لعنهم اللَّه، ففرَّ من سَلِم واعتصم بالغياض، وبعضهم التحق ببلاد الرّوس.
وأقام هَؤُلَاءِ التَّتَار في بلاد القفجاق، وَهِيَ كثيرة المرعى في الشتاء، ووصلوا إلى مدينة سوداق وَهِيَ مدينة القفجاق وَهِيَ عَلَى بحر خَزَريَّة، وإليها تصل التُّجَّار والمراكب يشترون الرقيق والبُرطاسي وغير ذَلِكَ. وبحر خَزَريَّة هَذَا متصل بخليج قسطنطينية.
وَلَمَّا وصلت هذه الطائفة من التَّتَار إلى سوداق ملكوها، وتفرق أهلها، فبعضهم هرب إلى الجبال، وبعضهم ركب البحر، ثُمَّ أقام التَّتَار ببلاد القفجاق إلى سنة عشرين وستمائة.
وأما الطاغية جنكزخان فَإِنَّهُ - بعدما سيّر هذه الطائفة المذكورة، فهزمت خُوَارِزْم شاه - قسَّم أصحابه عِدَّة أقسام، فسيَّر كلَّ قسم إلى ناحية؛ فسيَّر طائفة إلى ترمذ، وطائفة إلى كلاثى وهي حصينة على جانب جيحون. وسارت كلُّ طائفة إلى الجهة التي أُمرت بقصدها واستولت عليها قتلًا وسبيًا وتخريبًا، فَلَمَّا فرغوا من ذلك عادوا إلى الملك جنكزخان وَهُوَ بسمرقند، فجهَّز جيشَا عظيمًا مَعَ أحد أولاده لحرب جلال الدين ابن علاء الدين خُوارزم شاه، وسيَّر جيشًا آخر فعبروا جيحون. آخر كلام عز الدين ابن الأثير رحمه الله.
قلت: ونازلت التتارُ خُوارزم، فحاصروها ثلاثة أشهر، واستولوا عليها في صفر سنة ثماني عشرة، ونزل عليها أوكتاي الذي ولي الأمر بعد أبيه -[297]- جنكزخان، ومعه باجي ملك في جيشٍ عرمرم مائة ألف أَوْ يزيدون. وَلَمَّا لم يجدوا بها حجارة عمدوا إلى أصول التُّوت فقطعوها ودوّروها، ورموا بها بدلًا عن حجارة المَنْجنيق، وحرص أوكتاي كل الحرص أن يتسلمها بالْأمان ولا يؤذي فيها، فأجابه الْأكابر، غير أَنَّ السفهة غلبوهم عَلَى رأيهم بإغرائهم، وجرى عليها حربٌ لم يُسمع بِمِثْلِهِ؛ بحيث أَنَّهُ كانت تؤخذ المحلة منها فيقاتل أهلها، ثُمَّ ينضمون إلى المحلة التي تليها فيقاتلون، إلى أن أُخذت محلةٌ بعد محلَّة، حَتَّى لم يبق معهم إِلَّا ثلاث محالّ، فتزاحم بها الخلائق، فطلبوا الْأمان حينئذ، فلم يُؤمنوا وقتلوهم صبْرًا. هَذَا معنى ما ذكره أَبُو سعد شهاب الدين النَّسَويّ.
قُلْتُ: وممّا أخذت التَّتَار: نَيْسَابُور، ومرْو، وهَرَاة، وبلْخ، وتِرْمذ، وسَرْخس، وطُوس، وخوارزم، وسائر مدن خُراسان. وذهب تحت السيف أُمم لَا يحصيها إِلَّا اللَّه تعالى.
وَقَالَ الموفق عَبْد اللطيف: انشعب من التَّتَار فرقتان كما ينشعب من جهنَّم لسانان، فرقة قصدت أَذْرَبِيجَان وأرَّان ثُمَّ بلاد الكُرْج، وفرقة أَتَتْ عَلَى همذان وإصبهان، وخالطت حُلوان تقصد بَغْدَاد.
أمّا الْأولى فأفسدت البلاد التي مرت عليها، فَلَمَّا وصلوا إلى بلاد الخزر جمع الكُرْج جموعهم ولقوهم، فانهزموا، يعني الكرج، وقُتل من صميمهم ثمانية آلاف، ومن الْأتباع والفلاحين عددٌ كثير. وتَقَنْطَرَ ملكُ الكرج فتداركه الْأمراء فاستنقذوه من أنيابهم العُضل، واعتصم ببعض القلاع، والتتر يموجون في البلاد بالإفساد، ويعضون عَلَى مَنْ سَلِم الْأنامل من الغَيْظ، انفرد منهم فارس، فَقَالَ ملك الخَزَر: أما عندنا مَنْ يخرج إِلَيْهِ؟ فانتخى بطل من الكُرج وخرج إِلَيْهِ، فما عَتَّم أن قتله التَّتَريُّ واقتاد فرسهٌ ورجعَ رُويدًا، وأخذ يَفسرُ الفرسَ ليعلم سِنّه، فعجب ملك الخزر وَقَالَ: انظروا كَأَنَّهُ قد وَزَنَ فيه الثمن.
ثُمَّ حشد الكُرج نَوْبَة أخرى، واستنجدوا بعسكر أرْزَن الروم، وَقَالَ النَّاس: إنهم لَا يرجعون. فَلَمَّا اشتدّت شوكة الكُرج رجع التَّتر بغير أمرٍ معروف، ولا سبب مخوفٍ، بل لسعادةٍ لحقت، وأيامٍ بقيت، وَكَانَ هَذَا سنة ثمان عشرة، وَأَنَا بأَرْزَن.
ورجع التَّتر إلى شِروان فأخذوها بالسيف وقتلوا أهلها، وتجاوزوا -[298]- الدَّرْبند قَسْرًا بالسيف، وعبروا إلى أمم القَفْجَق واللّان فغَسَلُوهم بالسيف.
ثُمَّ مات ملكُ الخَزَر وَكَانَ شابًا، وتَوَلَّت أختُه، وسيَّرت إلى الملك المُغيث صاحب أرْزن تخطب أحد ولديه، الصغير، وَهُوَ ابن بنت بُكتمر صاحب خِلاط، وَهُوَ مليح عمره سبع عشرة سنة فزوَّجها بِهِ، وشاع الخبرُ أَنَّهُ تنَصَّر.
وخرج في هذه السنة من رقيق التُّرك ما لم تجر بِهِ العادة، حَتَّى فاضوا عَلَى البلاد، وكلهم وصلوا من ناحية تَفْليس، وهم من فضلات سيوف التتر، وكل واحد يحكي هَوْل ما عاين؛ حكت جارية منهم قَالَت: عَوَت كلاب بلادنا عَوِيًّا شديدًا وقامت عَلَى أذنابها، وأهلها يضربونها فلا ترتد، فبعد ثلاث ساعات أَوْ أربع فاض الجبل بعساكر التتر، فابتدؤوا بالكلاب ثُمَّ بِالنَّاس.
وأرض القفجاق واسعة، معتدلة الهواء، عذبة المياه، تتفجر ينابيعها، وتتخرق عيونها، وهي أرض حرة طيبة التُّربة، وغنمهم كثيرةٌ النّتاج، تلدُ النعجة الْأربعة في البطن والخمسة، وقلّما تلد واحدًا، وغنمهم عالي الهضبة، يكاد الكبش يُركْب.
وأمّا الفرقة التي قصدت بَغْدَاد، فردهم اللَّه بقوة العَقْل وحُسن التدبير، أمّا أولًا، فإنّ صاحب إربل شحن الدَّرْبندات بالْأكراد، وإليهم ينتهي العلم باللصوصية، فسلّطهم عليهم يسرقونهم ويقتلونهم صبرًا في نومهم، فيصبحون وقد نكبوا نكبات في جهات لَا يدرون من أَيْنَ ولا كيف. ثُمَّ إنّ الخليفة جمع الجموع وعسكر العساكر وحشر، فنادى، وأقبلت إِلَيْهِ البُعوث من كلّ حدبٍ ينْسلون، فَلَمَّا سمعوا بوصول رَسُول التتر تقدّموا إلى صاحب إربل بأن يحتفل ويظهر جميع عسكره، ويُدخل بينهم من العوام والفلاحين من يَشْتَبه بهم. فَلَمَّا وصل الرَّسُول إربل تلقاه عساكر قَطَعَتْ قَلْبه، وصاروا يتكررون عليه، كلما مر بقوم سبقوه وعادوا وقفوا بين يديه، فَلَمَّا دخل في ولاية دقوقا عُبئ لَهُ من العساكر أضعاف ذَلِكَ وصاحبها من مماليك الخليفة، فأمر أن تضرب خيمٌ عظيمةٌ، وبسط بين يديها بسطًا قدر نصف فرسخ، ونُصبت سُدَّة عالية فوق -[299]- تخت يُصعد إِلَيْهِ بدرج، وأظهر زينةً عظيمةً، ووقف عشرون ألفًا بسيوفٍ مجردة. فَلَمَّا وصل الرَّسُول يشق تِلْكَ العساكر أتى حدّ البُسط، فأُمر أن يترجلّ فتمنّع من ذَلِكَ، فهمُّوا بِهِ، فَلَمَّا وصل إلى بين يدي التخت، أُمر بالسجود كُرهًا والصَّيْحات تأخذهُ، وروعات السيوف تذهله. ثُمَّ أُخرج إلى بَغْدَاد فلقيته عساكر بَغْدَاد، صغّرت في عينه ما رَأَى، لم يتركوا ببغداد فرسًا ولا جملًا ولا حمارًا حَتَّى أركبوه رجُلًا ومعه شيء من السلاح، وأكثرهم بالْأعلام والبَرْك أسطوانات، وخلقٌ يلعبون بالنِّفط ويرمون بالبُنْدق الزّجاج فيه النِّفط، فامتلأت البَرّية بالنِّيران. فَلَمَّا وصل إلى بَغْدَاد خرج إِلَيْهِ صميم العسْكر بأصناف العُدد الفاخرة المُسجفة بالْأطلس المكلّل بالجواهر عَلَى الخيل المسوَّمة. فَلَمَّا وصل إلى باب النوبيّ إلى الصّخْرة التي يُقبّلها المُلوك قِيلَ لهم: مرتبتكم دون ذَلِكَ، فأُمر أن يُقبّل أسفل منها، ثُمَّ حُمل إلى دار، ثُمَّ أُخرجوا بالليل خُفية عَلَى طريق غير مسْلوكة، ورُدُّوا إلى إربل، وَقِيلَ للرسول: إنُما هرَّبناك في الخُفية خوْفًا عليك من العامة، ففصل وقد امتلأ قلبه رُعبًا ودماغه خبالًا، وأبثَّ قومه ما أثبته عيانه، فعلموا أَنَّهُم لَا قبل لهم ببغداد، فرجعوا خائبين.
وأمّا أهل إصبهان ففتحوا أبواب المدينة، وقالوا لهم: ادخلوا، فدخل منهم قوم، فما شربوا أنفاسهم حتى أهريقت دماؤهم، فكرُّوا راجعين. وكذلك فعل أهل رُسْتاقاتهم.
قَالَ: وسُئل الملكُ الْأشرف عَنْهُمْ، فَقَالَ: ما أقول في قومٍ لم يؤخذ منهم أسير قطُّ، لكن يُقاتل إلى أن يُقتل أَوْ يَخْلُص. وَلَمَّا وصلت إلى أرزن الروم وجدتُ هذه الكلمة قد سيَّرها ملك الكُرْج فيما وصف من حروبهم، وأما قتلاهم فلا ينتهي العاد إلى حدٍّ إِلَّا والحالُ توجب أضعافه، ولا يُقَال: كم قُتل من بلد كذا؟ وإنّما يُقَال: كم بقي؟! واجتمعت بتاجر سُروج كَانَ يُتَرجم لهم، قَالَ: اجتمع التُّجَّار من جميع البلاد إلى نَيْسَابُور يتحصّنُون بها، فنزل عليها التّتر فأخذوها في أربعة وعشرين يومًا، وأتوا على أهلها بالقتل، وعليها بالإحراق والخراب حَتَّى غادروها كأنْ لم تَغْن بالْأمس. وهربتُ منهم مرّات -[300]- وأقعُ في الْأسر. ثُمَّ هرب في المرَّة الْأخيرة وتعلّق بجبلٍ، فَلَمَّا رحلوا طالبين هراة، قال: نزلنا وكنا سبعة، فأحصينا القتلى خمسمائة ألف وخمسين ألفًا، ووجدنا الْأموال مُلقاة، وجزْنا ببلاد الملاحِدَة وَهِيَ عَلَى عمارتها لم يتشعّث منها شيء. وحكى لنا تاجر آخر واسطيّ قَالَ: إِنَّهُ اختفى بجبلٍ وخرج بِعد أيام، فرأى الْأرض مسطوحة بالقَتْلَى والْأموال والمواشي، وكنتُ أَنَا وعشرة سَلمْنا، ولو كانت معنا عقولنا لأخذنا من الْأموال ما يفوت الآمال، وإنما أخذنا حمل دقيق عَلَى جمل.
قَالَ المُوَفَّق: ومما أهلكوه بلاد فرْغانة وَهِيَ سبع ممالك، مسيرة أربعة أشهُر، وكلّ من هرب منهم تَحَيّلوا في قَتْله بكُل مُمْكنٍ، وإذا اجتمعوا في مجالس أُنْسهم ونُزْهة قلوبهم أحضروا قومًا من الْأُسارى، وأخذوا يمثّلون بواحدٍ، واحدٍ، بأن يقطعوا منه عضوًا بعد عُضو، وكلّما اضطرب وصاح تضاحكوا وأُعجبوا، وربما حطُّوا السيف في جوفه أو ليته قليلًا، وَمَتَى التمس الشخص رحمتهم ازدادوا قساوة. وَإِذَا وقع لهم نساء فائقات في الحُسن تمتَّعوا بهنّ أيامًا ثُمَّ قتلوهن. وحكت لي امْرَأَة بحلب أَنَّهُم ذبحوا ولدها وشربوا الدم، ثُمَّ نام الذابحُ فقامت فذبحته، وهربت هِيَ وزوجها.
وقد كَانَ السلطان خُوَارِزْم شاه مُحَمَّد بن تكش سارقًا هجّامًا، وَكَانَ عسكره أوْشابا، لَيْسَ لهم ديوان ولا إقطاع، وأكثرهم أتراك كُفّار أَوْ مُسلمون جُهال، لَا يعرف تعْبئة العسْكر في المَصافّ، ولم يتعود أصحابهُ إِلَّا المهاجمة، وَلَيْسَ لهم زَرَد ولا دروع، وقتالهم بالنشّاب. وَكَانَ يقتل بعض القبيلة، ويستخدم باقيها، وفي قلوبهم الضغائن. ولم يكن فيه شيءٌ من المداراة لَا لأصحابه ولا لأعدائه، فخرج عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ التَّتَار وهم بنو أبٍ، بكلمة واحدةٍ، وقلبٍ واحدٍ، ورئيسٍ واحدٍ مُطاع، فلم يمكن أن يقف مثل خُوارزم شاه بين أيديهم، وورد إلى البلاد منهم ما لم يُعهد، والبلاد خالية عن ملكٍ، فلم يبق عند أحدٍ منهم دفاع، وصاروا كالغنم لَا تدفع عَنْهَا ذابحًا. فَلَمَّا وصل التتر إلى إصبهان لم يرتع أهلها لأنهم مُعوَّدون بحمل السلاح، فلم يكن عندهم أحقر من هَذَا العدوّ. إلى أن قَالَ: واللَّه سُبحانه يحبّ العدل والعمارة ويأمر بهما، -[301]- وهؤلاء الملاعين يبغضونهما، إِذْ لَا دين لهم ولا عقْل، وكلّ حيوان رديء الخُلُق ففيه خُلُق آخر حُمَيْد كالكلب والخنزير والذئب والنمر، وَهَؤُلاءِ فقد جمعوا من كلّ حيوان رديء خُلقه، فاجتمعت فيهم الرداءات محضة.
قال ابن واصل: بعث جنكزخان جيشاً فعبروا جيحون، وتسلموا بَلْخ بالْأمان، وقرروا بها شحنةً ولم ينهبوها، ثُمَّ قصدوا قلعة الطّالقان وَهِيَ لَا ترام حصانة وارتفاعاً، وبها الشجعان فحصروها ستة أشهر وعجزوا عنها، فسار إليها جنكزخان بنفسه، وحصرها ومعه خلائق من المسلمين أسْرى، فنازلها أربعة أشهر وقُتل عليها خلائق، ثُمَّ أمر فُجمع لَهُ من الْأخشاب ما أمكن، وصاروا يعملون صفًّا من خشب وصفًّا من تُراب، وما زالوا حَتَّى صار تلًا يوازي القَلْعة، وصعدت الرجال فيه، ونصبوا عَلَيْهِ المَجانيق فرمت إلى وسط القلعة، فخرج من بها عَلَى حَمِيَّة وحملوا عَلَى التّتر، فنجت الخَيّالة وسلكوا الجبال، وقُتلت الرجّالة، واستباحت التّتر القلعة.
ثم جهز جنكزخان الجيش إلى مَرْو وبها من المقاتلة نحو مائتي ألف من جُند وعَرَب وتُجّار، فعسكروا بظاهرها عازمين عَلَى لِقاء العَدوّ، فالتقوا واقتتلوا قِتالًا شديدًا، ثُمَّ انهزمَ المسلمون وَقُتِلَ أكثرهم. ثُمَّ نازلت التَّتر مَرْو وجَدُّوا في حصارها أربعة أيام فتسلّموها بالْأمان، وخرجَ إليهم أميرها، فخلع عليه ابنُ جنكزخان ووعده بولاية مَرْو، وَقَالَ: أريد أن تعرض عَليّ أصحابك لننظر مَنْ يصلح لخدمتنا حَتَّى نعطيه إقطاعًا. فَلَمَّا حضروا قبضَ عليهم، وأمرَهُم أن يكتبوا لَهُ تجّار البلد وأعيانه في جريدة (وأرباب) الصّنائع (في جريدة)، ففعلوا. ثُمَّ ضُربت أعناق الْجُند والْأمير، ثُمَّ صادر الْأعيان وعذَّبهم حَتَّى استصفاهم، وقسم نساء مرو وذراريها وأسراها، ثُمَّ أمر بإحراق البلد فأُحرق ثلاثة أيام، ثُمَّ أمر بقتل العامة كافة، فأُحصيت القتلى بها فكانوا سبعمائة ألف.
ثُمَّ ساروا إلى نَيْسَابُور فحصروها خمسة أيام، وبها عسكر عَجَزوا عن التَّتر، فأخذ البلد ثُمَّ أخرجوا النَّاس فقتلوهم، وسبوا الحريم، وعاقبوا ذوي المال. -[302]-
وسارت فرقة إلى طوس فبدعوا بها. ثم ساروا إلى هراة فحصروها عشرة أيام وأخذوها بالأمان، ثم قتلوا بعض أهلها، وجعلوا بها شحنة.
ثُمَّ ساروا إلى غَزْنة فالتقاهم السُّلْطَان جلال الدين فكسرهم، فوثب أهلُ هراة وقتلوا الشِّحنة، فَلَمَّا رجع المُنْهزمون قتلوا عامة أهل هراة، وسبوا الذرية وأحرقوا البلد. ورجعوا إلى جنكزخان وَهُوَ بالطالقان يبثّ جيوشه، وَكَانَ قد نفّذ جيشًا عظيمًا لحصار خُوَارِزْم، فنازلوها خمسة أشهر، وبها عسكر وشُجعان، فقُتل خلائق من الفريقين، ثُمَّ أُخذت عَنْوَة، وقُتل أهلها، ثُمَّ سلطوا عليها نهر جيحون فغرقت وتهدمت.