-سنة أربع وستمائة

فيها ملكَ السُّلطان نُصرة الدين أَبُو بَكْر ابن البهلوان مدينة مراغة، وذلك أنّ صاحبها علاء الدين ابن قُراسنقر مات وخَلَّفَ ابنًا طفلًا فملَّكوه، ثُمَّ مات.

وفيها عبرَ خُوارزم شاه إِلى بلاد الخطا بجميع جيوشه وجيش بُخَاري وسَمَرْقَند، وحَشَدَ أهلُ الخطا فجرى بينهم وقعات ودام القتال.

قَالَ ابن الأثير: في سنة أربع عبرَ علاءُ الدّين مُحَمَّد ابن خُوارزم شاه - قلتُ: ولَقَبَهُ خُوارزم شاه - إِلى ما وراء النّهر لقتال الخطا، وكانوا قد طالت أيّامهم ببلاد تُركستان وما وراء النَّهر وثقُلَت وطْأتهم عَلَى أهلها، ولهم في كلّ -[12]- بلد نائب، وهم يسكنون الخركاوات عَلَى عادتهم، وكان مُقامهم بنواحي كاشغر وأوزْكَنْد وبَلاسَاغُون. وكان سلطان سمرقند وبُخارى مَقْهُورًا معهم، فكاتبَ علاءَ الدّين وطلبَ منه النَّجدةَ عَلَى أن يَحْمل إِلَيْهِ ما يَحْمله إِلى الخطا ويُريح الإسلام منهم.

قلت: ثُمَّ اشتدّ القتال في بعض الأيّام بين المسلمين والخطا، فانهزم المسلمون هزيمةً شنيعة وأُسِر خلْق، منهم السلطان خُوارزم شاه وأمير من أمرائه الكبار؛ أسرهما رجلٌ واحد ووصل المُنْكَسِرون إِلى خُوارزم، وتخبَطت الأمور. وأمّا خُوارزم شاه فأظهر أنّه غلام لذلك الأمير، وجعلَ يخدمه ويُخلّعه خُفّه، فقام الّذي أسرهما وعَظَّمَ الأميرَ وقال: لولا أنّ القوم عرفوا بك عندي لأطلقتك، ثُمَّ تركه أيّامًا، فَقَالَ الأمير: إنّي أخاف أن يظنّ أهلي أنّي قُتِلت فيقتسمونَ مالي، فأهلك، وأحبّ أن تقرِّرَ عليَّ شيئًا من المال حتّى أحمله إليك، وقال: أريد رجلًا عاقلًا يذهب بكتابي إليهم. فَقَالَ: إنَّ أصحابَنا لا يعرفون أهلك. قَالَ: فهذا غلامي أثق بِهِ، فهو يمضي إنْ أذِنتَ، فأذِن لَهُ الخطائيَ فَسَيَّرَهُ، وبعثَ معه الخطائيّ من يخفرِّه إِلى قريب خُوارزم، فخفروه، ووصل السلطان خُوارزم شاه بهذه الحيلة سالمًا، وفرح بِهِ النّاس وزُيّنت البلادُ. وأمّا ذاك الأمير، وهو ابن شهاب الدّين مسعود، فَقَالَ لَهُ الّذي استأسَرهُ: إنّ خُوارزم شاه قد عدم. فَقَالَ لَهُ: أما تعرفه؟ قَالَ: لا. قَالَ: هُوَ أسيرك الّذي كَانَ عندك. فَقَالَ: لمَ لا عرفتني حتّى كنتُ خدمته وسرتُ بين يديه إِلى مملكته. قَالَ: خِفْتكُم عَلَيْهِ. فقال الخطائي: فسر بنا إليه، فسارا إِلَيْهِ.

ثُمَّ أتته الأخبار بما فعله أخوه عليّ شاه وكُزْلك خان، فسارَ ثُمَّ تبعه جيشُه. وكان قبل غزوه الخطا قد أمَّرَ أخاه عَلَى طبرستان وجُرجان، وأَمَّرَ كزكان عَلَى نَيْسابور وهو نسيبه، وولَّى جلدك مدينة الجام، ووَلَّى أمين الدّين مدينة زَوْزَن - وأمين الدّين كَانَ من أكبر أمرائه، وكان حَمَّالًا قبل ذَلِكَ، وهو الّذي -[13]- ملكَ كرمان، وقتل حُسَين بْن جرميك - وصالحه غياث الدّين الغوري وخضعَ لَهُ، وأَمَّرَ عَلَى مَرْو وسَرْخس نوابًا، ثُمَّ جمعَ عساكره وعَبَر جَيْحون، واجتمع بسلطان سمرقند، وجرى حرب الخطا الّذي ذكرناه.

فأمّا ابن جرميك نائب هراة فإنه رأى صنيع عسكر السلطان خُوارزم شاه بالرعيَّة من النَّهْب والفتْك، فأمسك منهم جماعة، وبعثَ إِلى السّلطان يعرّفه ما صنعوا، فغضبَ وأمرَهُ بإرسال الْجُند لحاجته إليهم في قتال الخطا، وقال: إنّي قد أمرتُ عزّ الدّين جلدك صاحب الجام أنْ يكون عندك لِما أعلمه من عقله وتدبيره، وكتبَ إِلى جَلْدك يأمره بالمسير إِلى هَرَاة، ويقبض عَلَى ابن جرميك. فسارَ في ألفي فارس - وقد كَانَ أَبُوهُ طُغْرُل متولّي هَراة في دولة سنجر، فجلدك - إليها بالأشواق ويؤثرها على جميع خراسان. فلما خرج لتلقيه نزلا واعتنقا، ثم أحاط أصحابه بابن جرميك فهرب غلمانه إلى البلد، فأمر الوزير بغَلْق هراة واستعدّ للحصار، فنازل جلدك هراة، وأرسل إِلى الوزير يتهدّده بأنّه إنْ لم يُسَلّم البلد قتل مخدومه ابن جرميك، فنادى الوزير بشعار السلطان غياث الدين محمود الغوري، فقدموا ابن جرميك إِلى السُّور فحدَّثَ الوزيرَ في التسليم فلم يقبل، فذبحوه، ثُمَّ أمَرَ خُوارزم شاه في كتبه إِلى أمين الدّين صاحب زوزن، وإلى كزلك خان متولي نيسابور بالمسير لحصار هراة، فسارا ونازلاها في عشرة ألاف. واشتدّ القتال، وقد كَانَ ابن جرميك قد حَصَّنَها، وعمل لها أربعة أسوار، وحَفَر خندقها وملأها بالمِيرة، وأشاعَ أنّي قد بقيت أخاف عَلَى هراة شيئًا، وهو أن تُسْكَر المياه الّتي لها، ثُمَّ تُرْسَل عليها دَفْعَة واحدة فينهدم سورها. فلمّا بلغ أولئك قولُه فعلوا ذَلِكَ، فأحاطت المياه بها ولم تصل إِلى السُّور لارتفاع المدينة، بل ارتفع الماء في الخندق، وكثر الوحل بظاهر البلد، فتأخّر لذلك العَسْكر عنها، وهذا كانَ قصْد ابن جرميك، فأقاموا أيّامًا حتّى نشف الماء.

ولمّا أُسر خُوارزم شاه - كما قَدّمنا - سار كُزلك خان مُسْرعًا إِلى نَيْسابور، وحَصَّنَها، وعزم عَلَى السَّلطنة. وكذلك هَمَّ بالسّلطنة عليّ شاه ودعا إِلى نفسه، واختَبَطَت خُراسان. فلما خلص خوارزم شاه وجاء، هرب كزلك خان بأمواله -[14]- نحو العراق، وهرب عليّ شاه مُلْتجئًا إِلى غياث الدِّين الغُوريّ، فتلقّاه وأكرمَهُ.

وأمَّا خُوارزم شاه فإنّه استعمل عَلَى نَيْسابور نائبًا، وجاء فَتَمَّمَ حصار هراة، ولم ينل منها غَرَضًا بحسن تدبير وزيرها. فأرسل إليه خُوارزم شاة يَقُولُ: إنّك وعدت عسكري أنّك تُسَلِّم إليَّ البلد إذَا حضرت. فَقَالَ: لا أفعل، أنتم غَدّارون لا تُبقُون عَلَى أحد، والبلد للسّلطان غياث الدّين. فاتّفقَ جماعةٌ من أهل هراة، وقالوا: أهلكَ الناس من الْجُوع، وتَعَطّلت المعائش، وهذه ستَّة أشهر. فأرسل الوزير مَن يُمسكهم، فثارت فتنة في البَلد وعظُمت، فتداركها الوزير بنفسه، وكَتَبَ إِلى خُوارزم شاه، فزحف عَلَى البلد وهم مختبطون فملكها، ولم يُبْقِ عَلَى الوزير وقَتَلَهُ، وذلك في سنة خمس. ثُمَّ سَلَّم البلد إِلى خاله أمير ملك، فَرَمّ شعثَهُ. ثُمَّ أَمَر خالَهُ أن يسير إلى السلطان غياث الدين محمود ابن غياث الدّين، فَيَقْبض عَلَيْهِ وعلى عليّ شاه، فسارَ لحربهما، فأرسل غياث الدّين يبذل لَهُ الطّاعة، فأعطاه الأمان، فنزل غياث الدّين من فيروزكوه، فقبض عليه وعلى علي شاه. ثُمَّ جاء الأمر من خُوارزم شاه بقتلهما، فقتلهما في وقتٍ واحد من سنة خمس الآتية.

وفيها تملك الأوحد أيوب ابن العادل مدينة خِلاط بعد حرب جرت بينه وبين بَلبان صاحبها، وقُتِلَ بعد ذَلِكَ بلبان عَلَى يد ابن صاحب الروم مغيث الدّين طُغرل شاه، وساقَ القصَّةَ ابن الأثير في " تاريخه " وابن واصل وغيرهما.

وخِلاط مملكة عظيمة وهي قصبة أرمينية، وبلادها متّسعة حتّى قِيلَ: إنّها في وقتٍ كانت تقارب الدّيار المصريَّة، وهذا مبالغة، وكانت لشاه أرمن بْن سُكْمان، ثُمَّ لمملوكة بكتمر، فَقُتِلَ بكتمر سنة تسعٍ وثمانين وخمسمائة، فملكها ولده. ثُمَّ غلب عليها بلبان مملوك شاه أرمن. وكان المَلِك الأوحد قد مَلَّكُه أبوه ميافارقين وأعمالها بعد موت السّلطان صلاح الدّين، فافتتح مدينة موش وغيرها، وطمع في مملكة خلاط وقصدها، فالتقاه بلبان فكسره، فَرَدَّ إِلى مَيّافارقين، فحشَدَ وجَمَع، وأنجده أَبُوهُ بجيش فالتقى هُوَ وبلبان، فانهزم بلبان -[15]- وتحصن بالبلد، واستنجد بطغرل شاه السَّلْجُوقيّ صاحب أرزَن الروم، فجاء وهزم عَنْهُ الأوحد، ثُمَّ سار السّلجوقيّ وبلبان فحاصرَا حِصن موش، فغدر السّلجوقيّ ببلبان وقتله، وساقَ إِلى خلاط ليملكها فمنعه أهْلُها، فساقَ إِلى منازكرد فمنعه أهلُها، فَرَدَّ إِلى بلاده، واستدعى أهلُ خلاط الأوحد فملّكوه، وملك أكثر أرمينية. فهاجت عَلَيْهِ الكُرْج وتابعوا الغارات عَلَى البلاد، واعتزل جماعة من أمراء خِلاط وعصوا بقلعة، فسارَ لنجدته الأشرف موسى في جيوشه، وتَسَلَّموا القلعة بالأمان. ثُمَّ سار الأوحد ليقرّر قواعد ملازكرد، فوثب أهل خلاط وعصوا، فكَرَّ الأوحد وحاصرهم، ودخلَ وبذلَ السيف فقتل خلقًا، وأسر الأعيان. وكان شَهمًا سفاكاً للدماء، فتوطدت له الممالك.

وفيها اتّفق الفرنج من طرابلس وحصن الأكراد عَلَى الإِغارة بأعمال حمص، ثُمَّ حاصروها، فعجز صاحبها أسد الدّين عنهم، ونَجَده الظّاهر صاحب حلب بعسكر قاوموا الفرنج. ثُمَّ إنّ السُّلطان سيف الدّين سار من مصر بالجيوش وقصد عَكّا، فصالحهُ صاحبها، ثُمَّ سار فنزل عَلَى بحيرة حمص، فأغار عَلَى بلاد طرابلس، وأخذ حِصنًا صغيرًا من أعمالها. وقد مَرَّ ذَلِكَ استطرادًا في سنة إحدى وستمائة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015