-سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة

فيها وصل الأمير أبو الهيجاء الكرديّ، المعروف بالسمين، كان مُفْرِط السُّمن، ومن أعيان أمراء الشام، ترك خدمة الملك العزيز عثمان ابن صلاح الدين وقدِم بغدادّ، فتُلُقّي وأُكرِم، وبالغوا في احترامه، ثم جرت من أجناده ناقصة لمّا جرّدوا وحاربوا عسكر الدّيوان، وكان هو ببغداد.

وفيها خطب بالسلطنة وضُرِبت السّكَّة للملك العزيز، كما خُطِب له عامَ أوّلٍ بدمشق، وتمّت له سلطنة مصر والشام، مع كون عمّه العادل صاحب دمشق، وأخيه صاحب حلب.

وفي جُمادى الآخرة جَرَى بركة الساعي من واسط إلى بغداد في يومٍ وليلة، وهذا لم يُسْبق إلى مثله، وخُلِع عليه خِلَع سنيّة، وحصل له مال.

ثُم خُلِع على أبي الهيجاء السّمين، وأُمِر أن ينزل بهمذان، وتوفّي بعد شهر.

وفيها وجّه محيي الدين الحَسَن بن الربيع رسولًا إلى شهاب الدّين الغوريّ صاحب غزنة.

أنبأنا ابن البُزُوريّ قال: وانقضّ في شوّال كوكبٌ عظيم سُمِع لانقضاضه صوتٌ هائل، واهتزت الدُّور والأماكن، فاستغاث الناس، وأعلنوا بالدّعاء، وظنّوا ذلك من أمارات القيامة.

قال: وفيها ملَك إسماعيلُ بنُ سيف الإسلام طُغْتِكِين بلد اليمن بعد أبيه، وأساء في ولايته، وادّعى أنّه قُرَشيّ، وخطب لنفسه وتسمّى بالهادي، ثم قتل.

قال أبو شامة: وفي شوّالها فتح العادل يافا عَنْوةً وأخربها، وكان قد -[935]- أتاها أربعون فارسًا نجدةً، فلمّا عاينوا الغَلَبَة دخلوا الكنيسة وأغلقوا بابها، ثم قتل بعضُهم بعضًا، فكسر المسلمون الباب فوجدوهم صَرْعَى.

وهذا ثالث فتح لها؛ لأنّها فتحت في أيّام فتح بيت المقدس، ثم استرجعها الإنكتير، ثمّ أخذها ثاني مرَّة صلاح الدين، ثم افتتحها في هذا الوقت الملك العادل، ثمّ ملكتها الفِرنج، ثم افتتحها السّلطان الملك الظاهر رابعاً، ثم خرِّبت.

كتب الفاضل إلى محيي الدّين ابن الزّكيّ يقول: " وممّا جرى من المُعْضِلات بأسٌ من الله طرق ونحن نيام، وظنّ الناس أنه اليوم الموعود، ولا يحسب المجلس أنّي أرسلت القلم محرِّفاً، والقول مجزّفًا، فالأمر أعظم، ولكنّ الله سلَّم، إنّ الله أتى بساعةٍ كالسّاعة، كادت تكون للدنيا الساعة، في الثلث الأوّل من ليلة الجمعة تاسع عشر جُمادى الآخرة، أتى عارض فيه ظُلُمات متكاثفة وبروق خاطفة، ورياح عاصفة، قوي ألهوبها، واشتد هُبُوبها، وارتفعت لها صَعقات، فرجفت الجدران، واصطفقت، وتلاقت على بُعْدها، واعتنقت، وثار عَجَاج، فقيل: لعلّ هذه على هذه قد انطبقت، وتوالت البُرُوق على نظام، فلا يُحسَب إلا أنّ جهنّم قد سال منها وادٍ، وزاد عصْف الريح إلى أن تغطّت النُّجوم، وكانت تسكن وتعود عُودًا عنيفًا، ففرّ الناس والنساء والأطفال، وخرجوا من دُورهم لا يستطيعون حيلةً، ولا يهتدون سبيلًا، بل يستغيثون ربّهم، ويذكرون دِينهم، ولا يستغربون العذاب، لأنهم على مُوجباته مُصِرّون، وفي وقت وقوع واقعاته باستحقاقه مُقِرّون، معتصمين بالمساجد الجامعة، وملتقين الآية النّازلة من السمّاء بالأعناق الخاضعة، بوجوهٍ عانية، ونفوسٍ عن الأموال والأهل سالية، قد انقطعت من الحياة عُلَقهم، وعميَت عن النّجاة طُرُقُهم، فدامت إلى الثلث الأخير، وأصبح كلٌّ يسلِّم على رفيقه ويهنيه بسلامة طريقه، ويرى أنه بُعث بعد النفخة، وأفاق بعد الصَّرخة، وتكسرت عدة مراكب في البحار، وتقلّعت الأشجار الكبار، ومن كان نائمًا في الطُّرق من المسافرين دفنته الرّيح حيًّا، وركِب فما أغنى الفِرار شيئًا، والخَطْبُ أشقّ، وما قضيت بعض الحق، فما مِن عباد الله مَن رأى القيامة عيانًا إلا أهل بلدنا، فما اقتصّ الأوّلون مثلَها في المَثُلات، والحمد لله الذي جعلنا نخبر عنها ولا يخبر عنّا، في كلام طويل. -[936]-

وفيها أخذت الفرنج بيروت، وكان أميرها الأمير عزّ الدين سامة لمّا سمع بوصول العدوّ إلى صيدا هرب، فملكها الفِرنج ثاني يوم، وفيه صنِّف:

سلِّم الحِصنَ ما عليكَ مَلامَه ... ما يُلام الذي يرومُ السّلامهْ

فَعَطاءُ الحصونِ من غير حربٍ ... سنَّةٌ سنَّها ببيروتَ سامهْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015