وفيها كتب السّلطان صلاح الدّين إلى الأقطار يستدعي الأجناد إلى الجهاد. وبرز فِي أوّل السّنة، ونزل عَلَى أرض بُصرى مرتقبًا مجيء الحاجّ ليخفرَهم منَ الفِرَنج. وسار إلى الكَرَك والشَّوبك، فأحرق ضياعهما، وأقام هناك شهرين، واجتمعت الجيوش برأس الماء عِنْد ولده الأفضل، فجهَّز بعثًا فأغاروا على طبرية، وقدِم منَ الشّرق مظفَّر الدّين صاحب إربِل بالعساكر، وقدِم بدر الدّين دلدرم عَلَى عسكر حلب، وقايماز النَّجْميّ عَلَى عسكر دمشق، فساروا مُدلجين حَتَّى صبَّحوا صَفُّورِيَّة، فخرجت الفِرَنج فنصر اللَّه المسلمين، -[674]- وقُتِل منَ الفِرَنج خلقٌ منَ الإسبِتار، وأسروا خلقًا.
وأسرع السّلطان حَتَّى نزل بعشترا، وعرض العساكر وأنفق فيهم، وسار بهم وَقَدْ ملأوا الفضاء فنزل الأرْدُنّ، ونزل مُعظم العساكر. وسار إلى طبريَّة فأخذها عَنْوةً، فتأهَّبت الفِرَنج وحشدوا، وجاءوا من كُلّ فجّ وأقبلوا، فرتَّب عساكره فِي مقابلتهم وصابَحهم وبايتَهم.
وكان المسلمون اثني عشر ألف فارس وخلقٍ منَ الرجَّالة. وقيل: كَانَ الفِرَنج ثمانين ألفًا ما بين فارسٍ وراجلٍ. والتجؤوا إلى جبل حطين، فأحاط المسلمون به من كُلّ جانب، فهرب القومُّص لعَنه اللَّه، ووقع القتال، فكانت الدّائرة عَلَى الفِرَنج، وأُسِر خلقٌ منهم الملك كي، وأخوه جفْري، وصاحب جُبيل، وهنْفري بْن هَنفري، والإبرِنْس أرناط صاحب الكَرَك، وابن صاحب إسكندَرونة، وصاحب مَرَقيَّة.
وما أحلى قول العماد الكاتب: " فَمَن شاهد القَتْلَى يومئذٍ قَالَ: ما هناك أسير، ومَنْ عايَنَ الأسرى قَالَ: ما هناك قتيل.
قُلْتُ: ولا عَهْد للإسلام بالشّام بمثل هَذِهِ الوقعة من زمنَ الصّحابة. فقتل السّلطانُ صاحبَ الكَرَك بيده لأنه تكلَّم بما أغضب صلاح الدّين، فتنمّر وقام إليه فطيَّر رأسه، فأُرعب الباقون.
وقَالَ ابن شدّاد: بل كَانَ السّلطان نَذَر أن يقتله لأنه سار ليملك الحجاز، وغَدَرَ وأخذ قَفْلا كبيرًا، وَهُوَ الَّذِي كَانَ مقدَّم الفِرَنج نوبةَ الرملة لمّا كبسوا السلطان صلاح الدّين وكسروه سنة ثلاثٍ وسبعين، وكان أرناط فارس الفِرنج فِي زمانه، وَقَدْ وقع فِي أسْر الملك نور الدّين، وحبسه مدَّةً بقلعة حلب. فَلَمَّا مات نور الدّين وذهب ابنه إلى حلب وقصده صلاح الدّين غير مرةٍ ليأخذ منه حلب أطلق أرناط وجماعةً من كبار الفرنج ليُعِينوه عَلَى صلاح الدّين، ثُمَّ قيَّد جميع الأسارى وحُملوا إلى الحصون، وأخذ السّلطان يومئذٍ منهم صليب الصَّلَبُوت، وكانت وقعة حِطّين هَذِهِ فِي نصف ربيع الآخر، ولم ينْجُ فيها منَ الفِرَنج إلا القليل، وهي من أعظم الفتح في الإسلام، وقيل: كان الفرنج أربعين ألفًا، وأبيع فيها الأسير بدمشق بدينار فللَّه المنة. -[675]-
قال أبو المظفَّر ابن الجوزيّ: خيَّم السّلطان عَلَى ساحل البحيرة فِي اثني عشر ألفًا منَ الفُرسان سوى الرّجّالة، وخرج الفِرَنج من عكّا، فلم يَدَعوا بها محتلِمًا. فنزلوا صَفُّوريَّة، وتقدَّم السّلطان إلى طبريَّة، فنصب عليها المجانيق، وافتتحها فِي ربيع الآخر، وتقدّمت الفِرَنج فنزلوا لوبية منَ الغد، وملك المسلمون عليهم الماء، وكان يومًا حارًّا. والتهب الغَوْر عليهم، وأضرم مظفَّر الدّين النّارَ فِي الزُّروع، وأحاط بهم المسلمون طول اللّيل، فَلَمَّا طلع الفجر قاتلوا إلى الظُّهر، وصعدوا إلى تلّ حِطّين والنّار تُضرَم حولهم، وساق القومُّص على حمِيَّة وحرق، وصعد إلى صفد، وعملت السيوف في الفرنج، وأسر منَ الملوك جماعة، وجيء بصليب الصَّلَبُوت إلى السّلطان، وَهُوَ مرصَّع بالجواهر واليواقيت فِي غلافٍ من ذهب. فأُسرَ ملكَ الفِرنج درباسُ الكُرديّ، وأسر إبرنس الكَرَك إِبْرَاهِيمُ غلام المهرانيّ.
قَالَ: واستدعاهم السّلطان، فجلس الملك عَنْ يمينه، ويليه إبْرنْس الكَرَك، فنظر السّلطان إلى الملك وَهُوَ يَلهَث عَطَشًا، فأمر لَهُ بماءٍ وثَلْج، فشرب وسقى البِرِنْس، فَقَالَ السّلطان: ما أذِنتُ لك فِي سقْيه. والتفتَ إلى البِرِنس فَقَالَ: يا ملعون يا غدّار، حَلَفت ونكثْت. وَجَعَل يعدّد عليه غَدْراته، ثُمَّ قام إِلَيْهِ فضربه حلَّ كتفه، وتمَّمه المماليك، فطار عقل الملك، فأمّنه السّلطان وقَالَ: هَذَا كلب غَدَر غير مرَّة.
إلى أن قَالَ: وأبيعت الأساري بثمنٍ بخسٍ، حَتَّى باع فقيرٌ أسيرًا بنَعل، فَقِيل لَهُ في ذلك فقال: أردتُ إهانتهم، ودخل القاضي ابن أَبِي عصرون دمشقَ وصليب الصَّلَبُوت منكَّسًا بَيْنَ يديه، وعاد السّلطان إلى طبريَّة، وآمن صاحبتها، فخرجت بأموالها إلى عكّا. وأمّا القومُّص فسار من صَفَد إلى طرابُلسَ فمات بها، فَقِيل: مات من جراحاتٍ أصابته. وقيل: إن امرأته سمّته.
قَالَ القاضي جمال الدّين ابن واصل: اجتمعت الجحافل عَلَى رأس الماء عِنْد الملك الأفضل ابن السّلطان، وتأخرت العساكر الحلبيَّة لانشغالها -[676]- بفرنج أنطاكية وبالأرمن، فدخل الملك المظفر صاحب حماه فأخمد ثائرتهم، ثُمَّ ردّ إلى حماة ومعه فخر الدّين مسعود ابن الزعفرانيّ على عسكر المَوْصِل وعسكر ماردين، فلحقوا السّلطان بعشترا، ثُمَّ ساروا، وأحاطت جيوشه ببُحيرة طبرية عند قرية الصّنبرة، ثُمَّ نازل طبريَّة فافتتحها فِي ساعةٍ من نهار.
وحكى ابن الأثير عمّن أخبره عَنِ الملك الأفضل قَالَ: كُنْت إلى جانب والدي السّلطان فِي مُصافّ حطِّين، وهو أوَّل مُصافٍّ شاهدتُه، فلما صار ملك الفرنج على التل حملوا حملةً منْكَرَةً علينا، حَتَّى ألحقوا المسلمين بوالدي، فنظرت إِلَيْهِ وَقَدْ اربدَّ لونُه، وأمسك بلحيته، وتقدَّم وَهُوَ يصيح: كذب الشَّيْطان. فعاد المسلمون عَلَى الفِرَنج، فرجعوا إلى التّلّ. فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ صُحت: هزمناهم، هزمناهم، فعاد الفِرَنج وحملوا حملةً ثانيةً حَتَّى ألحقوا المسلمين بوالدي، وفعَل مثل ما فعل أوّلًا، وعطف المسلمون عليهم وألحقوهم بالتّلّ، فصحت أَنَا: هزمناهم. فَقَالَ والدي: اسكُت، ما نهزمهم حَتَّى تسقط تِلْكَ الخيمة، يعني خيمة الملك، قَالَ: فهو يَقُولُ لي وَإِذَا الخيمة قَدْ سقطت، فنزل أَبِي وسجد وشكر الله، وبكى من فرحه، وكان سبب سقوطها أنّهم عطشوا، وكانوا يرجون بالحملات الخلاص، فَلَمَّا لَمْ يجدوه نزلوا عَنْ خيلهم وجلسوا، فصعِد المسلمون إليهم، وألقوا خيمة ملكهم، وأسروهم كلّهم.
قال القاضي بهاء الدّين ابن شدّاد: حدَّثني من أثَق بِهِ أَنَّهُ لقي بحَوران شخصًا واحدًا ومعه طنب خَيمة، وفيه نيّفٌ وثلاثون أسيرًا يجرهم وحده لخذلانٍ وقع عليهم.
ومن إنشاءٍ عِماديّ إلى الخليفة: " الحمد للَّه الَّذِي أعاد الْإِسْلَام جديدًا .. إلى أن قَالَ: ونورد البُشرى بما أنعم اللَّه من يوم الخميس الثّالث والعشرين من ربيع الآخر إلى الخميس الآخر، تلك سبْع ليالٍ وثمانية أيّام حُسُوما، فيوم الخميس فُتحت طبرية، ويوم الجمعة والسبت نُوزل الفِرَنج فكُسِروا كسرةً ما -[677]- لهم بعدها قائمة، وَفِي يوم الخميس سلْخ الشّهر فُتحت عكّا بالأمان، ورُفعت بها أعلام الْإِيمَان، وهي أمُّ البلاد، وأخت إرمَ ذات العماد، إلى أن قَالَ: " فأما القتلى والأَسْرى فإنّها تزيد عَلَى ثلاثين ألفا، يعني فِي وقعة حِطّين وما حولها فِي هَذَا الأسبوع ".
وقد ذكر العماد أيضًا أَنَّهُ خُلّص من هَذِهِ السّنة من أسْر الكُفر أكثر من عشرين ألف أسير، ووقع فِي الأسر منَ الكفّار مائة ألف أسير. هكذا قال.
ثُمَّ سار السّلطان إلى عكا فوصلها بعد خمسة أيامٍ منَ الوقعة، فأخذها بالأمان، وملَكها بلا مَشَقَّة. وبلغ السّلطان الملك العادل هَذَا النصرُ العظيمُ، فخرج من مصر بالجيوش، فمرّ بيافا ومجدل فافتتحهما عَنْوةً، وغنِم منَ الأموال ما لا يوصف. ثُمَّ فتح اللَّه النّاصرة وصفُّوريَّة عَلَى يد مظفَّر الدّين صاحب إربل عنوةً، وفُتحت قيسارية على يد دلدرم وغرس الدّين قلِيج عَنوة، ونابلس عَلَى يد حسام الدّين لاجين بالأمان بعد قتالٍ شديد، ثُمَّ حصن الفولة بالأمان.
ثُمَّ نازل السّلطان تِبْنين فافتتحها، ثُمَّ صيدا فافتتحها، ثُمَّ بيروت ثُمَّ جُبَيل، ثُمَّ سار إلى عسقلان فحاصرها وضيّق عليها بالقتال والمجانيق، ثُمَّ أخذها بالأمان. وأخذ الرملة، والداروم، وغزة، وبيت جبريل، والنَّطرُون بالأمان.
ثُمَّ سار مؤيَّدًا منصورًا إلى البيت المقدّس، فنزل عليه من غربيّه فِي نصف رجب، وكان بها يومئذٍ ستّون ألف مقاتل. فقاتلهم المسلمون أشدّ قتال، ثُمَّ انتقل السّلطان بعد خمسٍ إلى الجانب الشّماليّ منَ البلد ونصب المجانيق ووقع الجد، فطلب الفِرنج الأمان، فأمَّنهم بعد تمنُّع، وقرَّر عَلَى كُلّ رجلٍ عشرة دنانير، وعلى كُلّ امرأةٍ خمسة دنانير، وعلى كُلّ صغير أو صغيرةٍ دينارين، وإن من عجز أُمهل أربعين يومًا، ثُمَّ يُسترقّ، فأجابوا إلى ذلك وجمع المال فكان سبعمائة ألف دينار، فقسّمه فِي الجيش. وبقي ثلاثون ألفًا ليس لهم فكاك، فاستعبدهم وفرَّقهم. وخلّص من أسارى المسلمين عشرين ألفًا، وخرج منها البترَك بأموالٍ لا تُحصى، فأراد الأمراء الغدر بِهِ فمنعهم وخَفَره، وقال: الوفاء خير منَ الغدر، وهذا البَتْرك عندهم أعظم رُتبةً من ملك الفِرَنج.
وكان هرب إلى بيت المقدس من الكبار صاحب الرملة ياليان بن -[678]- بادران، وَهُوَ دون ملك الفِرَنج فِي الرُّتبة بقليل، وخلق كثير من كبار فرسانهم، ورأوا أن الموت أهون عليهم من أخْذ المسلمين القدس من أيديهم إذ هو بيت عباداتهم الأعظم، ومحلّ تجسُّد النّاسوت فيما زعموا باللّاهوت - تَعَالَى اللَّه وتقدَّس عمّا يقولون عُلوًا كبيرًا - وبه قُمامة التي تُدعى القيامة محلّ ضلالتهم وقِبلة جهالتهم، زعموا أن المسيح دُفن بعد الصَّلب بها ثلاثة أيّام، ثُمَّ قام منَ القبر، وصعِد إلى السّماء، فبالغوا فِي تحصينه بكل طريق. فنازله السّلطان، وما وجد عليه موضعًا أقرب إلا من جهة الشمال فنزل عليه، واشتدّ الحرب، وبقيت الفرسان تخرج منَ المدينة وتحمل وتقاتل أشدّ القتال وأقواه، ثُمَّ إنَّ المسلمين حملوا عليهم يومًا حَتَّى أدخلوهم القدس، ولصقوا بالخندق، ثمّ أخذوا فِي النُّقوب، وتتابع الرمْي بالمجانيق منَ الفريقين ووقع الجدّ، واجتمعت الفرنج، فاتفقوا عَلَى طلب الأمان، فامتنع السّلطان - أيَّده اللَّه - من إجابتهم فَقَالَ: لا أفعل فِيهِ إلا كَمَا فعلتم بأهله حين ملكتموه من نحو تسعين سنة. فرجعت رُسُلهم خائبين. فخرج صاحب الرملة ياليان بنفسه فطلب الأمان فلم يُعط، فاستعطف السّلطان فامتنع، فَلَمَّا أيس قَالَ: نَحْنُ خلقٌ كثير وإنّما يفترّون عَنِ القتال رجاء الأمان ورغبةً في الحياة، فإذا رأينا أنَّ الموت لا بدَّ منه لنقتلنّ أبناءنا ونساءنا، ونحرق أموالنا، ولا ندع لكم شيئًا، فإذا فرغنا أخربنا الصَّخرة والأقصى، وقتلنا الأسرى، وهم خمسة آلاف مُسْلِم، وقتلنا الدّوابّ، ثُمَّ خرجنا إليكم وقاتلنا قتال الموت، فلا يُقتل منّا رَجُل حَتَّى يقتل رَجُلا ونُموت أعزّاء، فاستشار حينئذٍ السّلطان أُمراءه فقالوا: المصلحة الأمان. وقالوا: نحسب أنهم أسارى بأيدينا فنبيعهم نفوسهم. فأمّنهم بشرط أن يزِن كُلّ رجلٍ عشرة دنانير، وكل امرأةٍ خمسة دنانير، والطفل دينارين.
ثُمَّ رُفعت أعلام الْإِسْلَام عَلَى السُّور، ورتَّب السّلطان أُمَنَاءه عَلَى أبواب القدس ليأخذوا المال مِمَّنْ يَخْرُج، وكان بها ستّون ألفًا سوى النّساء والوِلْدان. ووزن ياليان من عنده عَنْ ثمانية عشر ألف رَجُل. ثُمَّ بعد ذَلِكَ أُسر منها عشرة آلاف نفس فقراء لَمْ يقدروا عَلَى شراء أنفسهم.
ثُمَّ إنّ جماعةً منَ الأمراء ادَّعوا أن لهم فِي القدس رعيَّة، فكان يطلقهم -[679]- كمظفّر الدّين ابن صاحب إربل ادَّعى أنّ جماعةً من أَهْل الرُّها بالقدس وعِدَّتهم ألف نفس. وكذلك صاحب البيرة ادّعى أنّ فيها خمسمائة نفس من أهل البيرة.
وكان عَلَى رأس قُبَّة الصَّخرة صليبٌ كبيرٌ مذهَّب، فطلع المسلمون ورموه، وضجّ الخلْق ضجَّةً عظيمة إلى الغاية.
وكان المسجد الأقصى مشغولًا بالخنازير والخبَث والأبنية، بنَت الدّاويةُ فِي غربيّه مساكن وفيها المراحيض، وسدّوا المحراب، فبادر المسلمون إلى تنظيفه وتطهيره، وبسطوا فِيهِ البُسط الفاخرة، وعُلَّقت القناديل، وخطب بِهِ النّاسَ يوم الجمعة، وهو رابع شعبان، القاضي محيي الدّين ابن الزّكيّ، وتسامع النّاس، وتسارعوا من كُلّ فجٍّ وقُربٍ وبُعدٍ للزّيارة، وازدحموا يوم هَذِهِ الجمعة حَتَّى فاتوا الإحصاء، وحضر السّلطان فصّلى بقرب الصَّخرة، وفرح إذ جعله اللَّه تَعَالَى فِي هَذَا الفتح ثانيًا لعمر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فاستفتح القاضي خطبته بقوله تَعَالَى: (فقُطعَ دابِرُ القومِ الَّذِينَ ظلمُوا وَالْحَمْدُ للَّه ربِّ العالمينَ)، ثُمَّ أول الأنعام، وآخر سُبحان، وأوّل الكهف، وحمدَلة النَّمل، وأول سبأ، وفاطر، ثم قال: الحمد للَّه مُعز الإسلام بنصره. . إلى آخرها. ثُمَّ خطب ثلاث جُمعٍ بعدها من إنشائه.
وَقَدْ كَانَ الملك نور الدّين أنشأ منبرًا برسم الأقصى قبل فتح بيت المَقْدِس طمعًا فِي أن يفتتحه، ولم تزل نفسه تحدّثه بفتحه، وكان بحلب نجّار فائق الصَّنعة، فعمل لنور الدّين هَذَا المِنبر عَلَى أحسن نعتٍ وأجمله وأبدعه، فاحترق جامع حلب، فنُصب فِيهِ لمَّا جُدّد المنبر المذكور، ثُمَّ عمل النّجّار المذكور ويُعرف بالأخترينيّ، نسبةً إلى قرية أخترين، محرابًا من نسبة ذَلِكَ المنبر، فَلَمَّا افتتح السّلطان بيت المقدس أمر بنقل المنبر فنصب إلى جانب محراب الأقصى، فللّه الحمد عَلَى هَذِهِ النِّعَم التي لا تُحصى.
وَقَدْ كَانَتِ الفِرَنج بنوا عَلَى الصَّخرة كنيسةً، وغيّروا أوضاعها وصوَّروها، ونصبوا مذبحًا، وعملوا عَلَى موضع القدم قُبةً لطيفة مذهَّبةً بأعمدة رخام، فخرّبت تِلْكَ الأبنية عَنِ الصَّخرة وأُبرزت. وكانت الفِرَنج قَدْ قطعوا منها قطعًا، وحملوها إلى القُسْطَنْطِينيَّة وإلى صَقَلّية، حَتَّى قِيلَ: كانوا يبيعونها بوزنها ذهبًا. -[680]-
وحضر الملك المظفَّر تقي الدّين فحمل إليها أحمالًا من ماء الورد فغسلها بها، وكنس ساحاتها بيده، وغسل جدرانها، ثُمَّ بخَّرها بالطِّيب، وحضر الملك الأفضل ابن السّلطان ففرش فيها بُسطًا نفيسة، ورتَّب الأئمَّة والمؤذّنين والقُوَّام. ثُمَّ عيَّن السّلطان كنيسة صندجية وصيَّرها مدرسةً للشّافعيَّة ووقف عليها وقوفًا جليلة. وقرَّر دار البترك الأعظم رباطًا للفقراء، ومحا آثار النّصرانيَّة، وأمر بإغلاق كنيسة قُمامة، ومنع النصارى من ريادتها. ثُمَّ تقَّرر بعدُ على من زارها ضريبةً تؤخذ منه.
ولما افتتح عُمَر بيت المَقْدِس أقرَّ هَذِهِ الكنيسة ولم يهدمها، ولهذا أبقاها السّلطان.
وللنَّسَّابة محمد بن أسعد الجوانيّ نقيب الأشراف بمصر:
أتُرى منامًا ما بعيني أُبصرُ ... القدسُ يُفتح والنَّصارى تكسرُ؟
وقمامة قمت منَ الرجس الَّذِي ... بزواله وزوالها يتطهَّرُ
ومليكهم فِي القيد مصفودٌ ولم ... يُرَ قبل ذاك لهم مليك يؤسَرُ
قَدْ جاء نصر اللَّه والفتحُ الَّذِي ... وعد الرسولُ فسبّحوا واستغفروا
يا يوسف الصِّدِّيق أنت بفتحها ... فاروقها عمر الإمام الأطهرُ
قَالَ أَبُو المظفّر ابن الجوزيّ: ولمّا افتتح السّلطان عكّا راح إلى تِبنين فتسلّمها بالأمان، وتسلَّم صيدا، وبيروت، وجُبيل، وغزَّة، والداروم، والرملة، وبينا، وبيت جبريل، وبلد الخليل، ونازل عسقلان فقُتل عليها حسام الدّين ابن المهرانيّ ثُمَّ تسلّمها. فكان مدة استيلاء الفِرَنج عليها خمسًا وثلاثين سنة، إلى أن قَالَ: ملك السّلطان هَذِهِ الأماكن فِي أربعين يومًا أولها ثامن عشر جمادى الأولى، ثُمَّ نازل القدس، إلى أن قَالَ: وخلص منَ الأسر بعكا أربعة آلاف، ومن القدس ثلاثة آلاف، فلله الحمد.
وقَالَ ابن الأثير: سار السّلطان عَنْ بيروت نحو عسقلان، واجتمع بأخيه العادل سيف الدّين، ونازلوها فِي سادس جُمادى الآخرة، وزحفوا عليها مرةً بعد أخرى، وأُخذت بالأمان فِي سلْخ الشّهر وسار أهلها إلى بيت -[681]- المَقْدِس، وتسلم البلد لثلاثٍ بقين من رجب. وأنقذه اللَّه منَ النَّصارى الأنجاس بعد إحدى وتسعين سنة، فَلَمَّا كَانَ يوم الجمعة رابع شعبان أقيمت الجمعة بالمسجد الأقصى، وخطب للناس قاضي القضاة محيي الدّين ابن الزَّكيّ خطبة مونقة بليغة، وابتدأ السّلطان فِي إصلاح المسجد الأقصى والصَّخرة، ومحو آثار الفِرَنج وشعارهم. وتنافس الملوك معه فِي عمل المآثر الحَسَنة والآثار الجميلة، فرزقنا اللَّه شُكر هَذِهِ النِّعم، ورحم اللَّه صلاح الدّين وأسكنه الجنّة.
وللعماد الكاتب يصف وقعة حِطّين: " حَتَّى إذا أسفر الصباح خرج الجاليشية تحرق نيران النصال أَهْل النّار، ورنَّت القسِيّ، وغنَّت الأوتار، واليوم ذاكٍ، والحرب شاكٍ، والقيظ عليهم فيض، وماء للغيظ منهم غَيْض، وَقَدْ وَقَدَ الحر، واستشرى الشّرّ، ووقع الكَرّ والفرّ، والجوّ محرق، والجوى مقلق، وأصبح الجيش على تعبيته، والنصر على تلبيته.
قَالَ: وبرَّح بالفِرنج العطش، وأَبَتْ عُثْرتها تنتعش، فرمى بعض مطوِّعة المجاهدين النّار فِي الحشيش، فتأجَّج عليهم استعارها، فرجا الفرنج فرجًا، وطلب طلبهم المحرج مخرجًا. وكلما خرجوا جُرحوا، وبرّح بهم حرّ الحرب فَمَا برحوا، فَشوتْهُم نار السّهام وأشوتهم، وصممت عليهم قلوب القسي القاسية وأصمتهُم.
وقال: وفتحوا عكا يوم الجمعة مستهل جُمادى الأولى، فجئنا إلى كنيستها العُظمى، فأزحنا عَنْهَا البُؤْسى بالنُّعمى، وحضر الأجلّ الفاضل فرتَّب بها المنبر والقبلة "، وأوّل من خطب بها جمال الدّين عَبْد اللطيف بْن أَبِي النّجيب السهرُورديّ، وولاه السّلطان بها القضاء والخطابة والأوقاف.
وقَالَ فِي حصار القدس: " أقامت المنجنيقات عَلَى حصانته حَدّ الرجم، وواقعت ثنايا شرفاته بالهَتْم، وتطايرت الصخور فِي نُصرة الصَّخرة المباركة، وحَجَرت عَلَى حكم السور بسَفَه الأحجار المتداركة، وحسرت النُّقوب عَنْ عروس البلد نقب الأسوار، وانكشفت للعيون انكشاف الأسرار ".
وفي رمضان توجه السلطان صلاح الدّين فنازل صور ونصب عليها -[682]- المجانيق، وكان قَدِ اجتمع بها خلقٌ لا يُحصون منَ الفِرَنج، فقاتلهم قتالًا شديدًا، وحاصرها إلى آخر السنة وترحَّل عَنْهَا، وكان قَدْ خرج أصطول صور فِي الليل فكبس أصطول المسلمين، وأسروا المقدَّم والرَّئِّيس وخمس قِطَع، وقتلوا خلْقًا منَ المسلمين فِي أواخر شوال، فعظُم ذَلِكَ عَلَى السّلطان وتألَّم، وهجم الشِّتَاء والأمطار، فرحل فِي ثاني ذِي القعدة، وأقام بمدينة عكّا شهرين فِي خواصّه.