-سنة ست وسبعين وخمسمائة

في أوّلها عزل شرف الدين سليمان بن ساروس عَن نيابة الوزارة لأجل عُلُو سِنه وثَقل سَمْعه، ووليها جلال الدين هبة اللَّه بْن عليّ ابن البخاريّ.

وفي المحرم ركب الناصر لدين اللَّه إلى الكشك، وصلّى الجمعة بجامع الرصافة.

وفيه قدم رسول الملك طغرل السلجوقيّ.

وفيه تقدّم إلى أستاذالدار بالقبض على كمال الدين عُبيد اللَّه ابْن الوزير -[477]- عضُد الدين مُحَمَّد ابْن رئيس الرؤساء. فنفذ للقبض عَلَيْهِ عز الدولة مَسْعُود الشرابي فِي جماعة من المماليك، فحمل مسحوبًا إلى بين يديه، فأمرهم أن يرفقوا به، وقيّد وسجن.

وفي صَفَر وصل أمير الحاج، وفي صُحبته صاحب المدينة عز الدين أَبُو سالم القاسم بن مهنّا للمبايعة.

وفِيهَا توجَّهَ السلطان صلاح الدين قاصدًا بلاد الأرمن وبلادَ الروم ليحارب قَلِيج رسلان بْن مَسْعُود بْن قَلِيج رسلان. والمُوجب لذلك أن قَليِج زوج بنته لمحمد بْن قرا رسلان بْن دَاوُد صاحب حصن كيفا، ومكثت عنده حينًا. وأنه أحبَّ مُغنيةً وشغف بها، فتزوجها، وصارت تحكم فِي بلاده. فلما سمع بذلك حُمُوُه قصد بلاده عازمًا على أخْذ ابنته منه، فأرسل مُحَمَّد إلى صلاح الدين يستنجد به، وكرَّرَ إليه الرُسُل. ثم استقر الحال على أن يصبروا عَلَيْهِ سنةً، ويُفارق المُغنية.

ونزل صلاح الدين على حصنٍ من بلاد الأرمن فأخذه وهده. ثم رجع إلى حمص فأتاه التقليد والخِلَع من الخليفة الناصر، فركب بها بحمص، وكان يومًا مشهودًا.

ومن كِتَاب السلطان صلاح الدين إلى الخليفة: " والخادم ولله الحمد يعدد سوابق في الإسلام والدولة العباسية لا يعدها أوليّة أبي مسلم؛ لأنه والى ثم وارى، وَلَا آخرية طُغْرلبك؛ لأنه نَصَر ثم حَجَر. والخادم خلع من كان ينازع الخلافة رداءها، وأساغ الغصة التي ذخر اللَّه للإساغة فِي سيفه ماءها، فرجَّل الأسماء الكاذبة الراكبة على المنابر، وأعِزّ بتأييدٍ إبراهيمي، فكسر الأصنام الباطنة بسيفه الظاهر.

وقال العماد الكاتب: توجه السلطان إلى الإسكندرية، وشاهد الأسوار التي جدَّدها، وقال: نغتنم حياة الْإِمَام أَبِي طاهر بْن عون. فحضرنا عنده وسمعنا عَلَيْهِ " الموطأ ". وكتب إليه القاضي الفاضل يُهنيه ويقول: أدام اللَّه دولة الملك الناصر سلطان الْإِسْلَام والمسلمين، مُحيي دولة أمير المؤمنين، وأسعده -[478]- برحلته للعلم، وأثابه عليها.

ولله وفي الله رحلتاه، وفي سبيل اللَّه يوماه: يوم سَفَك دم المحابر تحت قلمه، ويوم سفك دم الكافر تحت عَلَمِه. ففي الأول يطلب حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيجعل أثره عينًا لَا تُسْتر. وفي الثاني يحفل لنُصرة شريعة هداه على الضلال، فيجعل عينه أثرًا لَا يظهر.

إلى أن قَالَ: وما يحسب المملوك أن كاتب اليمين كتب لملك رحلة قط فِي طلب العِلْم إلَّا للرشيد، فرحل بولديه الأمين والمأمون لسماع هذا الموطأ الَّذِي اتفقت الهمتان الرشيدية والناصرية على الرغبة فِي سماعه، والرحلة لانتجاعه. وكان أصل " الموطأ " بسماع الرشيد على مالك فِي خزانة المصريين، فإن كان قد حصل بالخزانة الناصرية فهو بركة عظيمة، وإلا فليلتمس.

وفِيهَا أرسِل شَيْخ الشيوخ صدْر الدين عَبْد الرَّحِيمَ، وبشير المستنجدي الخادم إلى السلطان صلاح الدين بتقليد ما بيده من البلاد، وهو من إنشاء قوام الدين بن زبادة، فمنه: ولما كان الملك الأجلّ السيد صلاح الدين، ناصر الْإِسْلَام، عماد الدولة، جمال الملة، فخر الأمة، صفي الخلافة، تابع الملوك والسلاطين، قامع الكَفَرة والمتمردين، قاهر الخوارج والمشركين، عز المجاهدين، ألْب غازي بك أَبُو يعقوب يوسف بْن أيوب، أدام اللَّه عُلُوَّه على هذه السجايا مقبلًا.

وذكر التقليد، وفيه: آمرُه بتقوى الله، وآمره أن يتخذ القرآن دليلًا، وآمره بمحافظة الصلاة، وحضور الجماعة ولزوم نزاهة الحرمات. وآمره بالإحسان وبإظهار العدل، وأن يأمر بالمعروف، وأن يحتاط فِي الثغور، وأن يجيب إلى الأمان. وآمرُه بكذا وأمرُه بكذا. وكُتِب في صفر سنة ست وسبعين.

وفِيهَا وصل الفقيه هبة اللَّه بْن عَبْد الله من عند صاحب جزيرة قيس رسولًا، وقدم هدايا.

وفي جُمادى الأولى يوم الجمعة ركب الخليفة في الدست تظله الشمسية، -[479]- السوداء وعلى كريمه الطرْحَة، والكُل مُشاة. وخرج إلى ظاهر السور، ثم رد إلى جامع المنصور وصلى، وأقام بكشك الملكية أسبوعًا. وركب الجمعة الأخرى فِي موكبه، وصلى بجامع الرَّصَافة، وركب فِي الشَّبارة الطويلة، تُظِلُه القُبة السَّوداء، وأرباب الدولة قيام في السفن والخلق يدعون له.

وَفِيهَا أُقُطِع طُغْرُل الناصري الخاص البصْرةَ بعد موت متوليها قسيم الدولة بهاء الدين.

وفي جُمادى الآخرة ركب الناصر لدين اللَّه فِي موكبه، وخرج إلى الصَّيد، وطاف البلاد والأعمال، وغاب أسبوعًا.

وَفِيهَا وُلي نيابةَ دمشق عز الدين فَرُخْشاه ابْن أخي السلطان، وكان حازمًا، عاقلًا، شجاعًا، مقدامًا، كثير الحرمة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015