-سنة أربع وستين وخمسمائة

فيها واقع غلمان الخليفة العيَّارين بالدُّجَيْل، وَقُتِلَ كثير منهم، وجاءوا برؤوسهم، وأخذ قائدهم، وصلب ببغداد تسعة من اللصوص.

وفيها صودر الأمير قايماز ببغداد وأخذ منه ثلاثون ألف دينار، وانكسر بذلك.

وفيها كَانَ مسير أسد الدّين إلى مصر المسير الثّالث، وذلك أنّ الفرنج قصدت الدّيار المصريَّة فِي جَمْعٍ عظيم، وكان السّلطان نور الدّين فِي جهة الشّمال ونواحي الفُرات، فطلعوا من عسقلان، وأتوا بلبيس فحاصروها وملوكها، واستباحوها، ثمّ نزلوا عَلَى القاهرة فحاصروها، فأحرق شاور مصرَ خوفًا من الفرنج، فلمّا ضايقوا القاهرة بعث إلى ملكهم يطلب الصُّلح عَلَى ألف ألف دينار يعجِّل لَهُ بعضها. فأجابه ملك الفرنج مُرّي إلى ذَلِكَ وحَلَف لَهُ، فحمل إِلَيْهِ شاور مائة ألف دينار وماطَلَه بالباقي. وكاتبَ فِي غضون ذَلِكَ الملك العادل نور الدّين يستنجد بِهِ، وسوَّد كتابه، وجعل فِي طيِّه ذوائب النساء، وواصل كُتُبَه يستحثّه، فكان بحلب، فساق أسد الدّين من حمص إلى حلب فِي ليلة.

قَالَ القاضي بهاء الدّين يوسف بْن شدّاد: قَالَ لي السّلطان صلاح الدّين: كنت أُكْرهُ النّاسَ فِي الخروج إلى مصر هذه المرَّة، وهذا معنى قوله: (أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كثيرا).

وقال ابن الأثير: حُكي عَنْ صلاح الدّين قَالَ: لمّا وردت الكُتُب من مصر إلى نور الدّين أحضرني وأعلمني الحال، وقال: تمضي إلى عمك أسد الدين بحمص مَعَ رسولي تحثّوه عَلَى الحضور. ففعلت، فلمّا سرنا عَنْ حلب ميلًا لقِيناه قادمًا، فقال لَهُ نور الدّين: تجهَّز. فامتنع خوفًا من غَدْرهم أوّلًا، وعدم ما ينفقه فِي العسكر آخرًا، فأعطاه نور الدّين الأموال والرجال وقال: إن -[217]- تأخّرتَ عَنْ مصر سِرْتُ أَنَا بنفسي، فإن ملكها الفرنجُ لا يبقى معهم بالشّام مُقام. فالتفت إليَّ عمّي وقال: تجهَّز يا يوسف. فكأنّما ضرب قلبي بسِكّين! فقلت: والله لو أُعْطِيتُ مُلْكَ مصرَ ما سِرْتُ إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية من المَشَاقّ ما لا أنساه. فقال عمي لنور الدين: لا بد من مسيره معي، فتَرْسُمَ لَهُ. فأمرني نور الدّين وأنا أستقيله، وانقضى المجلس. ثمّ قَالَ نور الدّين: لا بُدَّ من مسيرك مَعَ عمّك. فشكوْتُ الضّائقة، فأعطاني ما تجهَّزتُ بِهِ، وكأنّما أُساقُ إلى الموت. وكان نور الدّين مَهِيبًا مَخُوفًا مَعَ ليِنه ورحمته، فسِرْتُ معه، فلما تُوفّي أعطاني اللَّه من المُلْك ما كنت أتوقعه.

رجعنا إلى ذكر مسير أسد الدّين: فجمع الجيوش وسار إلى دمشق، وعرض الْجَيْش، ثمّ سار إلى مصر في جيش عرمرم، فقيل: كانوا سبعين ألف فارس وراجل. فتقهقر الفرنج لمجيئه، ودخل القاهرة فِي ربيع الآخر، وجلس فِي الدَّسْت، وخلع عَلَيْهِ العاضد خِلَع السَّلْطنة، وولّاه وزارته، وهذه نسخة العهد:

" من عَبْد اللَّه أَبِي مُحَمَّد عَبْد اللَّه بْن يوسف العاضد لدين اللَّه أمير المؤمنين إلى السّيّد الأجلّ، الملك المنصور، سلطان الجيوش، وليّ الأئمة، مجير الأمة، أسد الدّين، هادي دُعاة المؤمنين، أَبِي الحارث شيركوه العاضدي، عضد الله به الدين، وأمتع ببقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته وأعلى كلمته، سلام عليك؛ فإنا نحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هُوَ، ونسأله أن يُصلّي عَلَى مُحَمَّدٍ سيّد المرسلين وعلى آله الطّاهرين والأئمَّة المَهْدِيّين. . . " ثمّ أتْبع ذَلِكَ بخطبتين بليغتين، وأنّه ولّاه الوزارة، وفوَّض إِلَيْهِ تدبير الدّولة. وكتب هُوَ فِي أعلى المنشور بخطّه: " هذا عهدٌ لم يُعهَد لوزير بِمِثْلِهِ، فتقلد أمانةً رآك أميرُ المؤمنين أهلًا لحملها، والحجَّة عليك عند اللَّه بما أوضحه لك من مراشد سُبُله، فخُذْ كتاب أمير المؤمنين بقوَّة، واسحبْ ذَيْل الفخار بأن اعْتَزَّتْ بك بنو النُّبوَّة، واتّخذ للفوز سبيلًا، (وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كفيلا).

وكان هذا قبل مقتل شاور؛ وهو أنّ أسد الدين لما دخل القاهرة قام شاور -[218]- بضيافته وضيافة عسكره، وتردَّد إلى خدمته، فطلب منه أسد الدّين مالًا ينفقه عَلَى جيشه فماطَلَه، فبعث إِلَيْهِ الفقيه ضياء الدّين عيسى بْن مُحَمَّد الهَكّاريّ يَقُولُ: إنّ الجيش طلبوا نفقاتهم، وقد مَطَلْتُهم بها وتغيَّرتْ قلوبُهم، فإذا أَبَيْتَ فكُنْ عَلَى حَذَرٍ منهم. فلم يؤثّر هذا عند شاور، وركب عَلَى عادته، وأتى أسد الدّين مسترسلًا، وقيل: إنّه تمارض، فجاء شاور يعوده، فاعترضه صلاح الدّين يوسف بْن أيّوب وجماعة من الأمراء النُّوريَّة فقبضوا عَلَيْهِ، فجاءهم رسول العاضد يطلب رأس شاور، فذبح وحمل رأسه إليه.

ثمّ لم يلبث أسد الدّين أنْ حَضَرَتْه المَنِيَّة بعد خمسة وستّين يومًا من ولايته، وقلّد العاضِدُ الملكَ النّاصر صلاح الدّين يوسف الأمورَ، وهو لَقَّبَه الملك النّاصر، وكتب تقليدَه القاضي الفاضلُ، فقام بالسلطنة أتمّ قيام.

قَالَ العماد فِي " البرق الشّاميّ " بعد أنْ ذكر استباحة الفرنج بلبيس: فأناخوا عَلَى القاهرة معوّلين عَلَى المحاصرة فِي عاشر صَفَر، فخاف النّاس من نوبة بلبيس، فلو أنّ الفرنج لم يعمدوا بالسوء إلى بلبيس لوثقت منهم القاهرة ولم تَدُم المحاصرة. وأحرق شاور مصر، وخاف عليها منهم، فبقيت النّار تعمل فيها أربعة وخمسين يومًا، وكان غرضه أن يأمن عليها من العدوّ الكافر، ثم عرف العجز، فشرع في الحيل ومداواة الغيل، فأرسل إلى ملك الفرنج يبذل لَهُ المَوَدَّة، وأنّه يراه لدهره العُمدة، فأحسن لَهُ العدَّة، ووفّر لرجائه الجدَّة، وقال: أَمْهِلني حتّى أجمع لك الدّنانير، وأنفذ لك منها قناطير، وأطمعه في ألف ألف دينار معجلة ومؤجلة، وتوثَّق منه بمواثيق مستحكَمَة، ثمّ قَالَ لَهُ: ترحل عنّا، وتوسع الخناق، وتترك الشّقاق، وعجَّلَ له مائة ألف دينار حيلة وخداعا، وواصل بكُتُبه نورَ الدّين مستصرخًا مستنفرًا، وفي طيّها ذوائب مجزوزة وعصائب محزوزة، وبقي ينفّذ للفرنج فِي كلّ حين مالًا، ويطلب منهم إمهالًا، حتّى أتى الغوث، فسلب أسد الدّين القرار، وساق فِي ليلةٍ إلى حلب، وقال: إنّ الفرنج قد استحكم فِي البلاد المصريَّة طمعُهم، وليس فِي الوجود غيرك من يُرغمهم، ومتى تجمع العسكر وكيف تدفعهم؟ فقال لَهُ: خزانتي لك، فخُذْ منها ما تريد، ويَصْحَبُك أجنادي. وعجل له بمائتي ألف دينار، وأمر خازنه وليّ الدّين إِسْمَاعِيل بأن يُعطيه ما يطلب، فقال: أمضي إلى الرحْبة لجمع التُّرْكُمان. وذهب نور الدّين ليتسلم قلعة جَعْبَر، وحشد أسد الدّين وحشر، وأسرع نور -[219]- الدّين بالعود إلى دمشق، وخرجنا إلى الفوّار، وأسد الدّين هناك فِي العسكر الجرّار، وأطلق لكلّ فارس عشرين دينارًا، ورحلوا عَلَى قصد مصر.

وخيَّم نور الدّين بمن أقام معه عَلَى رأس الماء، فجاء البشير برحيل الفرنج عَنِ القاهرة عند وصول خبر العسكر، فدخلوا مصر فِي سابع ربيع الآخر، وتودّد شاور إلى أسد الدّين وتردّد، وتجدد بينهما من الودّ ما تأكّد، ثمّ ساق العماد نحوَ ما تقدم، وأنّه قُتِلَ فِي سابع عشر ربيع الآخر.

ثمّ قَالَ: ولمّا فرغ العسكر بمصر بعد ثلاثة أيّام من التّعزية بأسد الدّين اختلفت آراؤهم، واختلطت أهواؤهم، وكاد الشَّمْل لا ينتظم، فاجتمع الأمراء النّوريَّة عَلَى كلمةٍ واحدة، وأيدٍ متساعدة، وعقدوا لصلاح الدّين الرأي والراية، وأخلصوا لَهُ الولاء والولاية، وقالوا: هذا مقام عمّه، ونحن بحكمه. وألزموا صاحب القصر بتوليته، ونادت السّعادة بتلبيته، وشرع فِي ترتيب الملك وتربيته، وسلّط الجود عَلَى الموجود، وبسط الوفور للوفود.

قال القاضي بهاء الدين بن شداد: كانت الوصيَّة إلى صلاح الدّين من عمِّه، ولمّا فُوِّض إِلَيْهِ تاب من الخمر وأعرض عَنِ اللَّهْو. ولقد سَمِعْتُهُ يَقُولُ لمّا يسر اللَّه ديارَ مصر: علمت أَنَّهُ أراد فتح السّاحل، لأنّه أوقع ذَلِكَ في نفسي.

وقال ابن واصل: لمّا مات أسد الدّين كَانَ ثَمَّ جماعة؛ منهم عين الدولة الياروقيّ، وقُطْب الدّين خسْرو الهَذَبَانيّ، وسيف الدّين عليّ المشطوب، وشهاب الدّين محمود الحارميّ خال صلاح الدّين، وكلٌّ منهم تطاول إلى الأمر، فطلب العاضد صلاح الدّين ليولّيه الأمر، حمله عَلَى ذَلِكَ ضَعْفُ صلاح الدين، وأنه لا يجسر على مخالفة، فامتنع وجَبُن، فأُلزِم وأُحضِر إلى القصر، وخُلِع عَلَيْهِ، ولُقِّب بالملك النّاصر صلاح الدّين، وعاد إلى دار الوزارة، فلم يلتفت إِلَيْهِ أولئك الأمراء ولا خدموه، فقام بأمره الفقيه ضِياء الدّين عيسى الهكّاريّ، وأمال إِلَيْهِ المشطوب، ثمّ قَالَ لشهاب الدّين: هذا هُوَ ابن أختك، وملكه لك. ولم يزل بِهِ حتّى حلَّفه لَهُ، ثمّ أتى قُطْب الدّين وقال: إنّ صلاح الدّين قد أطاعه النّاس، ولم يَبْقَ غيرك وغير عين الدّولة، وعلى كلّ -[220]- حال، فالجامع بينك وبين صلاح الدّين أنّ أصله من الأكراد، فلا يخرج الأمر عَنْهُ إلى الأتراك. ووعده بزيادة إقطاعه، فلانَ وحَلَف. ثمّ ذهب ضياء الدّين واجتمع بعين الدّولة الياروقيّ، وكان أكبر الجماعة وأكثرهم جَمْعًا، فلم تنفع رُقاه، وقال: لا أخدم يوسف أبدًا. وعاد إلى نور الدّين ومعه غيره، فأنكر عليهم فِراقهم لَهُ.

قَالَ العماد: وكان بالقصر أستاذ خصي يلقب بمؤتمن الخلافة، لأمره نفاذ، وبه فِي الشّدَّة عياذ، وله بتمحل الحيل لياذ، وعلى القصر استحواذ، فشمر وتنمَّر، وقال: مَن كِسْرى، ومن كَيْقبَاذ. وتآمر هُوَ ومن شايَعَه وبايَعَه عَلَى مكاتبة الفرنج، فكاتبوهم خفْية، فاتّفق أن تُرْكُمانيًّا عَبَر بالبير البيضاء فرأى نَعْلَين جديدِين مَعَ إنسانٍ، فأخذهما وجاء بهما إلى صلاح الدّين، فوجد فِي البطانة خِرَقًا مكتوبةً مكتومة مختومة، بالشرِّ محتومة، وإذا هِيَ إلى الفرنج من القصر؛ يرجون بالفرنج النَّصْر، فقال: دلّوني عَلَى كاتب هذا الخطّ. فدلوه عَلَى يهوديّ من الرَّهْط، فلمّا أحضروه تلفظ بالشّهادتين، واعترف أَنَّهُ بأمر مُؤْتَمَن الخلافة كَتَبه، واستشعر الخصي العصي، وخشي أن تسقه عَلَى شقّ العصا العِصِيّ، فلزم القصر، وأعرض عَنْهُ صلاح الدّين، ثمّ خرج إلى قريةٍ لَهُ، فأنهض لَهُ السّلطانُ صلاحُ الدّين من أَخَذَ رأسه فِي ذي القعدة.

ولمّا قُتِلَ هذا الخادم غار السودان وثاروا، ومن إسعار السعير استعاروا، وقاموا ثاني يوم قتْله وجيَّشوا، وكانوا أكثر من خمسين ألفا؛ من كل أعبس أغبش، أحمر أحمش، أجرى أجرش، ألسع أليش أسود وأسحم حسامه يحسم، فحسِبُوا أنّ كلّ بيضاء شحمة، وأن كل سوداء فحمة، وحمراء لحمة، وأنّ كلّ ما أسدوه من العجاج ما له لحمة، فأقبلوا ونُصَرائهم زحمة، وما فِي قلوبهم رحمة، فقال أصحابنا: إنْ فشلنا عَنْهُمْ سَلونا البقاء، وما فِي عادتهم العادية شيء من الإبقاء، فهاجوا إلى الهيجا، وكان المقدّم الأمير أَبُو الهيجا، واتّصلت الحرب بين القصرين، ودام الشّرّ يومين، وأُخرجوا عَنْ منازلهم العزيزة إلى الجيزة، وكانت لهم محلَّة تُسمّى المنصورة، فأخرِبت وحرثت. -[221]-

ولمّا عرف نور الدّين النّصر، واستقرار مُلْك مصر، ارتاح سِرُّه، وانشرح صدرُه، وأمدَّ الصّلاح بأخيه شمس الدولة تورانشاه.

وأمّا مملكة الرّيّ فكانت بيد إينانج يؤدّي حملًا إلى إلْدكْز صاحب أَذَرْبَيْجان، فمنعه سنتين، وطالبه فاعتذر بكثرة الْجُنْد والحاشية، فقصده إلْدكْز، فالتقيا وعملا مُصَافًّا، فانهزم إينانج، وتحصَّن بقلعةٍ، فحصره إلدكز فيها. ثم كاتب غلمان إينانج وأطمعهم، فقتلوه، وسلّموا البلد إلى إلْدكْز، فلم يَفِ لهم بما وعد، وطردهم، وظفر خُوارَزْم شاه بالّذي باشر قتل إينانج، فأخذه وصلبه. وأمّا إلْدكْز فعاد إلى هَمَذَان، وكان هذه المدة قد سكنها.

وفيها تملَّك الأمير شُمْلَة صاحب خُوزَسْتان بلاد فارس، ثمّ حشد صاحبها وجمع، وحارب شملَة ونصر عليه، فرد شملة إلى بلاده.

وفيها قَتَل العاضِدُ بالقصر الكامِلَ وأخاه ابني شاور وعمهما فِي جُمَادَى الآخرة؛ وذلك أنّهم لاذوا بالقصر، ولو أنّهم جاءوا إلى أسد الدّين سِلموا، فإنه ساءه قتل شاور.

وفيها كانت الزّلزلة العُظْمى بصَقَلّية، وأهِلك خلْقٌ كثير، فللّه الأمرُ من قبل ومن بعد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015